.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أمره الله بتخيير نسائه بين الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة - الحلقة الثانية

==========================================================

يقول الله جل في علاه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ}(هود:15-16)
وقفت الحلقة السابقة عند تنفيذ أمر الله الخاص بتخيير نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، بين الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزِينَتهَا، وأن يسرحن سَرَاحًا جَمِيلاً، وبين الله وَرَسُولهُ وَالدَّار الْآخِرَةَ، ونيل الْمُحْسِنَاتِ مِنْهُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا، حسب مضمون الآيتين 28-29 من سورة الأحزاب، وكانت الأولى التي عُرضَ عليها هذا التخيير منهن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، ثم تبعتها الأخريات من أزواجه، صلى الله عليه وسلم، وكلهن، رضي الله عنهن، اخترن الله ورسوله، ولم تختر أي منهن البديل الآخر، المتمثل بالحياة الدنيا وزينتها، وتم في الحلقة الاستشهاد بحديث مطول مروي عن عائشة، رضي الله عنها، حول ما جرى في هذه الحادثة الحاسمة، التي أشير فيها إلى حكم مستخلص منها يفيد أن التخيير ليس طلاقاً، حسب ما أكدته أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، في الثابت عنها، حيث قالت: (خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا)(صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب من خير نساءه).
وهذه الحادثة التاريخية تعج بالدروس والعظات والعبر، الجديرة بالتأمل والتدبر، واستخلاص العبر والعظات والدروس، التي منها:
الرفق في التربية
حِرصُ المربي على من يعول ويربي، يقتضي منه الحلم والصبر، واختيار الأساليب والوسائل الأنجع حتى خلال ساعات الحسم والحزم، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يعرض على زوجه عائشة، رضي الله عنها، التخيير طلب منها أن لا تتسرع بالرد، وأن تستشير أبويها في الأمر الذي سيعرضه عليها، فالهدف ليس نصب أفخاخ ووضع المخيَّر في امتحانات صعبة ومحيرة، ويتماشى موقفه صلى الله عليه وسلم، هذا مع منهجه الدعوي العام، فهو البشير النذير، المتجنب للفظاظة وغلظ القلب، وهذا الدرس نحتاج إلى تمثله في معاملة أزواجنا وأبنائنا وبناتنا ومن نعول، حتى نكون أقرب إلى قلوبهم وحبهم.
حسم المواقف عند الجد
الكريم يقدر التكريم، وصدق من قال: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، فعائشة، رضي الله عنها، قابلت حب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالحب والرضا بما قسم الله به لها من عيش معه، ولم تتخل عن ارتباطها الزوجي به، وحسمت أمرها على ذلك بثبات.
ولما علمت بالأمر الجلل الذي طلب منها أن تستشير أبويها قبل الإجابة عنه، لم تتردد في الاختيار، ولم تكن بحاجة لاستشارة أحد بشأن اختيارها، فاختارت الله، ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعبرت بثقة ويقين عن رأيها الحاسم بخصوص هذا العرض.
الباقيات الصالحات خير وأبقى من الحياة الدنيا وزينتها
عائشة، رضي الله عنها، لم تَجنح ولا أخواتها من أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، لاختيار الحياة الدنيا وزينتها، فهن وإن بدر منهن ما يشير إلى تطلعهن لتحسين ظروف معيشتهن وحياتهن، إلا أنه عند الحسم، وعندما يكون الاختيار إما الدنيا وإما الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للتردد في التنازل عن متاع الحياة الدنيا، وهكذا المؤمن الصادق يحب رغد العيش، وزينة الحياة الدنيا، ويحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، لكن ليس بأي ثمن، فالدنيا بأكملها لديه متاع الغرور وإلى فناء، والباقيات الصالحات خير وأبقى، من هنا؛ فإن المؤمن يرفض المال والجاه والسلطان والبنين والبنات والزروع والثمار والحقول والأنهار، إن احتاج إلى تحصيل أي من هذه الآلاء ارتكاب المحظور وانتهاك الحرمات.
وعرض الحياة الدنيا وزينتها كخيار اختباري للناس جاء في مواضع قرآنية أخرى، على وجه العموم دون تخصيص الخطاب لنساء النبي، صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الآية الخامسة عشر من سورة هود المثبت نصها أعلاه، التي يؤكد الله جل شأنه فيها تعهده سبحانه بأن ييسر الحياة وزينتها لمن يريدهما ثواباً لأعماله فيها، {وهم لا يبخسون} فمن كان يريد بعمله الدنيا، ولا يريد به وجه الله تعالى، يُوَفِّ الله إِلَيْهِ أَعْمالَهُ فِيها، يعني: ثواب أعماله في الدنيا {وَهُمْ فِيها لاَ يُبْخَسُونَ} يعني: لا ينقص من ثواب أعمالهم شيء في الدنيا {أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل القبلة. وقال الحسن: نزلت في المنافقين والكافرين.
{وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها} يعني: ثواب أعمالهم، لأنه لم يكن لوجه الله تعالى.(تفسير السمرقندي:2/141)
ويروى عن قتادة قوله: من كانت الدنيا همّه وقصده وسروره وطلبته ونيّته، جازاه الله تعالى ثواب حسناته في الدنيا، ثم يمضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.(تفسير الثعلبي= الكشف والبيان عن تفسير القرآن:5/160)
والصالحون من الناس يحرصون على نيل حسنة الآخرة، فيطلبونها مع حسنة الدنيا، وعنهم يقول عز جل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }(البقرة:201)
بخلاف الغافلين عن الآخرة، الذين تطلعهم ينصب على نيل ملذات الدنيا، دون أن يعملوا للآخرة، وعنهم يقول تعالى: {...فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (البقرة:200)
وحسم الله توجيهه الناصح المؤكد لتفاهة الحياة الدنيا وزينتها، إذا ما قورنت بما عند الله من خيرات، فقال عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (القصص:60)
وصف حال المتشبثين بالدنيا في آيات من سورة الزمر
وصف الله حال المتشبثين بالدنيا وزينتها وهم يواجهون الحقيقة القاسية يوم القيامة، في آيات قرآنية كثيرة، منها آيات من سورة الزمر، التي يقول فيها عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ* وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم ما كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}(الزمر:47-48)
فقد أُزعجوا بظهور سيئات أعمالهم، أي ظهور جزاء سيئاتهم حين رأوا دار العذاب وآلاته رؤية من يوقن بأنها معدة له، وذلك بعلم يحصل لهم عند رؤية الأهوال.
وعبر بالسيئات عن جزائها إشارة إلى تمام المعادلة بين العمل وجزائه، حتى جعل الجزاء من جنس العمل على حد قوله تعالى: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}(التوبة: 35).
ومعنى {حاق} أحاط. و{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يعم كل ما كان طريق استهزاء بالإسلام من أقوالهم الصادرة عن استهزاء.(التحرير والتنوير: 25 /387)
ويقول سبحانه في السورة نفسها: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ}(الزمر:51) وتبدو الحسرة ظاهرة على حالهم ومقالهم يومئذ، وعن هذا يقول عز وجل: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ* وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر: 56-60)
فالدنيا وزينتها لا تغني المتمتع بها شيئاً، إن اصطحب مع تمتعه بها الانحراف عن جادة الحق، أو غفل عن العمل للآخرة والنجاة فيها من العذاب، بينما الذين اتقوا الله وهداهم سبحانه فإنه يتفضل عليهم بالمفازة، والنجاة من النار، وخزي يوم القيامة، مصداقاً لقوله عز وجل الذي تلا الإخبار عن حال الذين ظلموا أنفسهم من الناس وغرتهم الحياة الدنيا وزينتها: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(الزمر:61)
أي ينجي الله من جهنم وعذابها الذين اتقوا ربهم، بأداء فرائضه، واجتناب نواهيه، بفوزهم وتحقق أمنيتهم، وهي الظَّفَر بالجنة، لا يمسهم من عذاب جهنم شيء، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.(التفسير الميسر: 8/ 266)
فهذه وقفة مع بعض التداعيات والأبعاد ذات الصلة بحادثة تخيير النبي، صلى الله عليه وسلم، نساءه، بين الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الآخرة، التي نزلت بشأنها وبالتعقيب عليها آيات قرآنية نتعبد إلى الله بتلاوتها، ونستقي منها التوجيه والدروس والعبر، التي منها ضرورة الرفق في التربية، حتى تؤتي أكلها، إلى جانب الحاجة إلى حسم المواقف عند الجد واتخاذ القرارات، وبخاصة المتعلقة بالمصير، مع ضرورة توطيد القلوب والأنفس على الإيمان بأن الباقيات الصالحات خير وأبقى من الحياة الدنيا وزينتها، مما يساعد في جلاء المواقف وسلامتها، وبخاصة عند الابتلاء بالمغريات والفتن يسيرها وشديدها.
سائلين الله العلي القدير أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من دروس هذا الحدث الجلل المتعلق بتخيير نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، بين الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الآخرة، حسب الأمر الإلهي الذي تلقاه النبي محمد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
6 محرم 1446هـ

تاريخ النشر 2024-07-12
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس