.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أمره الله بتخيير نسائه بين الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة - الحلقة الرابعة والأخيرة

==========================================================

ضمن الحديث المطول المتضمن خبر اعتزال النبي، صلى الله عليه وسلم، نساءه شهراً، يذكر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه ذهب ليقابل النبي، صلى الله عليه وسلم، في المشربة(1) التي كان فيها، حين اعتزل نساءه، ولما أذن له بالدخول، قال: "فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ، غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا، وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي". (صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها)
استرسلت الحلقة السابقة في استنباط مزيد من العبر والعظات المستخلصة من التأمل بهذه الواقعة التي أثبتها القرآن الكريم في سورة الأحزاب، ومن ذلك أن التحريم المشار إليه في مطلع سورة التحريم، يأخذ حكم اليمين، وتمت الإشارة إلى تسبب بعض نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، باتخاذ هذا الإجراء الأسري، وهما عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، ومعنى {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} تحليلها بالكفارة، وقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ} أي: بيَّنَ وأثْبَتَ، فالتحريم بهذا الوصف يأخذ حكم اليمين، الذي تجب الكفارة عند الحنث بها، استناداً إلى ما بينه سبحانه في الآية 89 من سورة المائدة، وفي الآية الثالثة من سورة التحريم وجه الله الخطاب لامرأتي النبي، صلى الله عليه وسلم، اللتين تشاركتا في إفشاء السر المشار إليه في تلك الحادثة، وتوعدهن الله إن لم يَتُبْنَ عما بدر منهن مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْإِيذَاءِ، وخطاب التّثنية عَائِدَة إِلَى الْمُنَبِّئَةِ وَالْمُنَبَّأَةِ، ومعنى {وصَغَتْ}: مَالَتْ، وَالتَّوْبَةُ: النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ.
وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال، والظهر هو السند والعون.

بساطة بيت النبوة وأمارات الزهد فيه
عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد أن جلس في المشربة التي كان يقيم فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، عندما اعتزل نساءه، قال: "فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ، غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ"
قوله: (فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ) أي نظرت فيه. و(الأَهبة) بفتح الهمزة والهاء جمع إهاب، وهو الجلد قبل أن يدبغ، أو مطلقًا، (فقلت: ادع الله) ليوسع (فليوسع على أمتك) فالفاء عطف على محذوف، فكرر لفظ الأمر الذي هو بمعنى الدعاء للتأكيد، قاله الكرماني. (شرح القسطلاني، إرشاد الساري، 4 /273)
وهذا برهان ودليل على بساطة عيش النبي، صلى الله عليه سلم، فأثاث بيته محدود وبسيط، وكذلك طعامه وشرابه، حتى إن أهل بيته كانوا أحياناً لا يجدون حاجة لأن يوقدوا ناراً لطهي طعامهم؛ لأنه غير موجود، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (إِنْ كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَنَمْكُثُ شَهْرًا مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ) (صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب منه)

قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما وجد البساطة والزهد المعبر عنهما في مكان إقامة النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا، وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: «أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي)
يبين القسطلاني أن قوله عليه الصلاة والسلام: (أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ ؟؟!!) بفتح الهمزة، والواو للإنكار التوبيخي، أي أأنت في شك في أن التوسع في الآخرة خير من التوسع في الدنيا؟!!!
(أولَئِكَ) فارس والروم (قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)
(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي) أي عن جراءتي بهذا القول في حضرتك، أو عن اعتقادي من أن التجملات الدنيوية مرغوب فيها. (شرح القسطلاني، إرشاد الساري، 4 /273)

الله يبسط الرزق لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ
الله سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولو شاء لبسط الرزق لعباده، وجعل حتى للكافرين القصور والمعارج، مصداقاً لقوله عز وجل: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف:33)
لكن اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ، وحتمية التقدير الإلهي للأرزاق حقيقة ترسخ في قلوب
ويؤنسه منه وجوده، والقبض الذي يسوءه ويوحشه منه حصوله، فالواجب لزوم عقوة «2» الأسرار، وقطع الأفكار عن الأغيار. (لطائف الإشارات، تفسير القشيري، 3 /119)
كل من سورتي سبأ والشورى، والست الباقية ذكرت في ست سور أخرى، حسب المبين في الجدول الآتي:
الرعد:26 القصص:82 الإسراء:30 العنكبوت:62 الروم:37 سبأ:39 الزمر :52 الشورى:12 الشورى:27

والقاسم المشترك الأعظم الذي يجمع بين هذه الآيات الكريمة جميعها، أن الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ.

ما يرشد إليه الحديث الشريف
ذكر العيني في عمدة القاري فوائد مستنبطة من الخبر المطول، الذي دار حوله وتداعياته صلب هذه الحلقة وسابقاتها الثلاث، والذي أخبر فيه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن بعض التفاصيل المتعلقة بحادثة اعتزال النبي، صلى الله عليه وسلم، نساءه شهراً، فقال: وَفِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد:
*بذل الرجل المَال لابنته لتحسين عشرَة زَوجهَا، لِأَن ذَلِك صِيَانة لعرضها وعرضه، وبذل المَال فِي صِيَانة الْعرض وَاجِب.
*تَعْرِيض الرجل لابنته بترك الاستكثار من الزَّوْج، إِذا كَانَ ذَلِك يُؤْذِيه ويحرجه.
*سُؤال الْعَالم عَن بعض أُمُور أَهله، وَإِن كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَة، إِذا كَانَ فِي ذَلِك سنة تنقل، وَمَسْأَلَة تحفظ.
*توقير الْعَالم ومهابته عَن استفسار مَا يخْشَى من تغيره عِنْد ذكره.
*ترقب خلوات الْعَالم ليسأل عَمَّا لَعَلَّه لَو سُئِلَ عَنهُ بِحَضْرَة النَّاس أنكرهُ على السَّائِل.
*أَن شدَّة الْوَطْأَة على النِّسَاء مذمومة، فَإِن قلت: روى ابْن عَبَّاس مَرْفُوعاً: (علق سَوْطك حَيْثُ يرَاهُ الْخَادِم)، وروى أَبُو ذَر: (أخف أهلك فِي الله، وَلَا ترفع عَنْهُم عصاك)، قال العيني: أسانيدها واهية، وَضرب الْمَرْأَة لغير الهجر فِي المضجع لَا يجوز، بل حرَام، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (الْأَحْزَاب: 58) الْآيَة.
*الْبَحْث فِي الْعلم فِي الطّرق والخلوات، وَفِي حَال الْقعُود وَالْمَشْي.
*الصَّبْر على الزَّوْجَات، والإغضاء عَن خطئهن، والصفح عَمَّا يَقع مِنْهُنَّ من زلل فِي حق الْمَرْء دون مَا يكون من حق الله.
*جَوَاز اتِّخَاذ الْحَاكِم عِنْد الْخلْوَة بواباً يمْنَع من الدخول إِلَيْهِ بِغَيْر إِذْنه.
*مَشْرُوعِيَّة الاسْتِئْذَان على الْإِنْسَان، وَإِن كَانَ وَحده؛ لاحْتِمَال أَن يكون على حَالَة يكره الِاطِّلَاع عَلَيْهَا.
*جَوَاز تكْرَار الاسْتِئْذَان لمن لم يُؤذن لَهُ إِذا رجا حُصُول الإِذْن، وَلَا يتَجَاوَز بِهِ ثَلَاث مَرَّات.
*أَن لكل لَذَّة أَو شَهْوَة قَضَاهَا الْمَرْء فِي الدُّنْيَا فَهُوَ استعجال لَهُ من نعيم الْآخِرَة.
*أَن الْإِنْسَان إِذا رأى صَاحبه مهموماً اسْتحبَّ لَهُ أَن يحدث بِمَا يزِيل همه ويطيب نَفسه.
*جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي الْوضُوء بالصب على يَد المتوضىء.
*خدمَة الصَّغِير للكبير، وَإِن كَانَ الصَّغِير أشرف نسباً من الْكَبِير.
*تذكير الْحَالِف بِيَمِينِهِ إِذا وَقع مِنْهُ مَا ظَاهره نسيانها.
*التناوب فِي مجَالِس الْعلمَاء إِذا لم يَتَيَسَّر الْمُوَاظبَة على حُضُوره لشاغل شَرْعِي من أَمر ديني أَو دُنْيَوِيّ.
*قبُول خبر الْوَاحِد وَلَو كَانَ الْآخِذ فَاضلاً ، والمأخوذ عَنهُ مفضولاً، وَرِوَايَة الْكَبِير عَن الصَّغِير.
*أَن الْغَضَب والحزن يحمل الرجل الوقور على ترك التأني المألوف مِنْهُ.
*شدَّة الْفَزع للأمور المهمة.
*جَوَاز نظر الْإِنْسَان نواحي بيت صَاحبه.
*كَرَاهَة تسخط النِّعْمَة، واحتقار مَا أنعم الله بِهِ، وَلَو كَانَ قَلِيلا.
*المعاتبة على إفشاء مَا لَا يَلِيق لمن أفشاه.
*حسن تلطف ابْن عَبَّاس وَشدَّة حرصه على الِاطِّلَاع على فنون التَّفْسِير.
*إِن سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْإِذْن فِي تِلْكَ الْحَال؛ الرِّفْق بالأصهار وَالْحيَاء مِنْهُم.
*جَوَاز ضرب الْبَاب ودقه إِذا لم يسمع الدَّاخِل بِغَيْر ذَلِك.
*دُخُول الْآبَاء على الْبَنَات بِغَيْر إِذن الزَّوْج، والتفحص عَن أحوالهن، لَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بالزوجات. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 20 /180)
وبهذه الوقفة نختم التأمل فيما تيسر من الدروس والعبر والعظات المستنبطة من التداعيات والأبعاد ذات الصلة بحادثة تخيير النبي، صلى الله عليه وسلم، نساءه، بين الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الآخرة، حسب الأمر الإلهي الذي تلقاه النبي محمد، صلى الله وسلم، وبارك عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

1. المشْربَة هِيَ الغرفة الصَّغِيرَة. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 13/18)، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَشْرُبَةُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الْغُرْفَةُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ.(مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 5 /2122) وَقِيلَ هي كَالْخِزَانَةِ فِيهَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ. (عون المعبود وحاشية ابن القيم، 2 /220)، وَفِي القَامُوسِ المَشْرُبَةُ الغُرْفَةُ أَوِ الْعُلِّيَّةُ. (تحفة الأحوذي، 3 /302)
2. العقوة الموضع المتسع أمام الدار.
20 محرم 1446هـ

تاريخ النشر 2024-07-26
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس