يخبر رب العزة أنه أنزل القرآن على قلب نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبين، فيقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ* وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}(الشعراء: 192-196(
أهمية اللغة العربية والاهتمام بها
في الثامن عشر من كانون الأول يُحتفل سنوياً باليوم العالمي للغة العربية، ففي مثل هذا اليوم أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، والذي يقر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية، ولغات العمل في الأمم المتحدة، خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو.
وقبل قرار الأمم المتحدة وبعده يُفترض أن يبقى الاهتمام بالغاً باللغة العربية، وبخاصة لدى العرب والمسلمين لأسباب بارزة، على رأسها أنها لغة القرآن الكريم، وأنها تتميز بخصائص أدبية عن اللغات الأخرى، ويعلل ابن كثير هذا التميز بأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس.(تفسير ابن كثير، 2/467)
ويقول ابن خلدون: اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير به عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة.(مقدمة ابن خلدون، 1/554)
لغة القرآن الكريم
اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، حيث أنزله رب العزة على قلب نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبين، كما تبين الآيات أعلاه من سورة الشعراء، وأخواتها من آيات الذكر الحكيم التي تحدثت عن اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، جاء في التفسير الكبير أن الباء في قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِي مُّبِينٍ} إما أن تتعلق بالمنذِرين، فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وإما أن تتعلق بنزل، فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به؛ لأنه لو نزله باللسان الأعجمي لتجافوا عنه، ولقالوا له ما نصنع بما لا نفهمه، فيتعذر الإنذار به، وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك، ولسان قومك، تنزيل له على قلبك؛ لأنك تفهمه ويفهمه قومك، ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك؛ لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها.(التفسير الكبير، 24/145)
ويذكر الطبري أن نزول القرآن الكريم بلسان عربي مبين ليبين لمن سمعه أنه عربي، وبلسان العرب نزل، وإنما ذكر تعالى أنه نزل هذا القرآن بلسان عربي مبين في هذا الموضع إعلاماً منه مشركي قريش أنه أنزله كذلك لئلا يقولوا إنه نزل بغير لساننا، فنحن إنما نعرض عنه ولا نسمعه، لأنا لا نفهمه وإنما هذا تقريع لهم، وذلك أنه تعالى ذكره قال: { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ
الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}(الشعراء: 5)، ثم بين أنهم لم يعرضوا عنه؛ لأنهم لا يفهمون معانيه، بل يفهمونها؛ لأنه تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين بلسانهم العربي، ولكنهم أعرضوا عنه تكذيباً به واستكباراً، فقد كذبوا، فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون.(تفسير الطبري، 19/112)
قرآناً عربياً
الله أنزل القرآن الكريم بلغة العرب، وقد تعددت الآيات القرآنية التي تضمنت إخباراً عن هذه القضية، أو إشارات دالة عليها، فالله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}(طه: 113) ويقول جل شأنه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(يوسف:2)
يبين الزمخشري بأن قوله تعالى: {أَنزَلْنَاهُ} أي أنزلنا هذا الكتاب، في حال كونه {قُرْءاناً عَرَبِيّاً}وسمي بعض القرآن قرآناً؛ لأنّ القرآن اسم جنس، يقع على كله وبعضه.(الكشاف، 2/415(
وفي آية أخرى جاء مكان لفظ {َأَنزَلْنَاهُ} لفظ {َجَعَلْنَاهُ} فقال عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(الزخرف:3)
ومعنى {جعلناه}؛ أي صيرنا هذا الكتاب عربياً، وقيل: بيناه، وقيل: سميناه، وقيل: وصفناه، يقال: جعل فلان زيداً أعلم الناس، أي وصفه بهذا، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}(الزخرف: 19)، وقوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}(الحجر: 91)، وقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } (التوبة: 19)، كلها بمعنى الوصف والتسمية.(تفسير البغوي، 4/133)
وفي موضع قرآني آخر سبق وصف القرآن بالعربي إشارة إلى تفصيله، فقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(فصلت: 3)
{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}: أي فصل كل شيء من أنواعه على حدته، وهذا يستلزم البيان التام والتفريق بين كل شيء، وتمييز الحقائق، {قرآناً عربياً}؛ أي باللغة الفصحى، أكمل اللغات، فصلت آياته، وجعل عربياً لقوم يعلمون؛ أي لأجل أن يتبين لهم معناه، كما يتبين لفظه، ويتضح لهم الهدى من الضلال، والغي من الرشاد.(تفسير السعدي، 1/744(
فنزول القرآن الكريم باللغة العربية فخر للعرب من ناحية، وميزة واضحة للقرآن الكريم، من ناحية أخرى، عسى أن ييسر الله الوقوف عند مزيد من هذه المزايا في ضوء الآيات القرآنية الكريمة المنزلة على قلب النبي الأمين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
17 جمادى الأولى 1442هـ