يقول عز وجل في محكم التنزيل: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ* وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}(الشعراء:197-199(
تعرضت الحلقة السابقة لإنزال الله القرآن الكريم عربياً حكماً ولساناً، ومن تفسير ذلك أنه حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، أو أنه مشتمل على أقسام التكاليف جميعها، أو أنه تعالى حكم على المكلفين جميعهم بقبول القرآن، والعمل به، فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكماً، وأنه تعالى أنزله حال كونه حكماً عربياً، وفي سورة الشورى نص على أن الله أوحى إلى نبيه، صلى الله عليه وسلم، قرآناً عربياً، لا لبس فيه عليه، ليفهم ما يقال له، وفي سورة الأحقاف، بين سبحانه أن القرآن الكريم أنزل بلسان عربي مصدق لكتاب موسى، عليه السلام، وأنه غير ذي عوج، ومن تفسير نفي العوج عن القرآن الكريم أنه أنزل بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه، ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان، وإنما جعله الله تعالى كذلك، وأنزله بذلك؛ {لعلهم يتقون} أي يحذرون ما فيه من الوعيد، ويعملون بما فيه من الوعد.
وكثير من المفسرين يؤكدون أن نفي العوج عن القرآن الكريم، يعني نفي الاختلاف عنه، فلا تضاد فيه، ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر، وقوله: {غير ذي عوج} أبلغ في نفي العوج عنه، كأنه قال: ليس فيه شيء من العوج أصلاً.
القرآن لم ينزل بلغة أعجمية
الأدلة دامغة على أن القرآن الكريم نزل باللغة العربية، ولا فرصة لأي مشكك بهذه الحقيقة التي أكدها رب البرية سبحانه ونفى عنه الأعجمية، ففي الآيات المثبت نصها أعلاه من سورة الشعراء تأكيد ضمني بأن لغة القرآن الكريم هي العربية وليست أعجمية، حيث يقول تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}
يفسر الرازي هاتين الآيتين الكريمتين، فيقول: فلو نزلناه على بعض الأعجمين الذين لا يحسنون العربية لكفروا به أيضاً.(التفسير الكبير، 24/146)
أما صاحب التسهيل لعلوم التنزيل، فيبين بأن الأعجمين جمع أعجم، وهو الذي لا يتكلم، سواء كان إنساناً أم بهيمة أم جماداً، والأعجمي المنسوب إلى الأعجم، وقيل: بمعنى الأعجم، ومعنى الآية أن القرآن لو نزل على من لا يتكلم، ثم قرأه عليهم لا يؤمنوا؛ لإفراط عنادهم، ففي ذلك تسلية للنبي، صلى الله عليه وسلم، على كفرهم به، مع وضوح برهانه.(التسهيل لعلوم التنزيل، 3/90)
وهذه الآيات هي التالية للآيات من سورة الشعراء نفسها، والتي تصدرت الحلقة الأولى من هذه السلسلة، ونصها: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ* وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}(الشعراء: 192-196) وبصدد نفي الأعجمية عن القرآن الكريم، يقول عز وجل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}(النحل:103)
اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام، ويلحدون من ألحد إذا مال، وقرئ بفتح الياء من لحد، وهما بمعنى واحد، وهذا رد عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه أنه يعلمه، أعجمي اللسان، وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة، فلا يمكن أن يأتي به أعجمي.(التسهيل لعلوم التنزيل، 2/162)
وقال سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}(فصلت:44)، جاء في التسهيل لعلوم التنزيل، أن الأعجمي الذي لا يفصح، ولا يبين كلامه سواء كان من العرب، أو من العجم، والعجمي الذي ليس من العرب، فصيحاً كان أو غير فصيح، ونزلت الآية بسبب طعن قريش في القرآن، فالمعنى أنه لو كان أعجمياً لطعنوا فيه، وقالوا هلا كان مبيناً، فظهر أنهم يطعنون فيه على أي وجه كان، وقوله: {أعجمي وعربي} هذا من تمام كلامهم، والهمزة للإنكار، والمعنى أنه لو كان القرآن أعجمياً لقالوا قرآن أعجمي، ورسول عربي، أو مرسل إليه عربي، وقيل: إنما طعنوا فيه لما فيه من الكلمات العجمية، كسجين واستبرق، فقالوا قرآن أعجمي وعربي؛ أي مختلط من كلام العرب والعجم، وهذا يجري على قراءة أعجمي بفتح العين.(التسهيل لعلوم التنزيل 4/15)
لسان قريش فيصل
اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، واسعة النطاق، وقد جعل لسان قريش حكماً وفيصلاً عند الاختلاف في عربية من عربيات القرآن الكريم، فقد أَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بن ثَابِتٍ، وَسَعِيدَ بن الْعَاصِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ الرحمن بن الْحَارِثِ بن هِشَامٍ، أَنْ ينسخوا ما في الْمَصَاحِفِ وقال لهم: إذا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ في عَرَبِيَّةٍ من عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فإن الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا)(صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب...)
يبين العيني أن قوله:(في عربية)؛ أي في لغة عربية، (من عربية القرآن) أي من لغته، وقوله: (فإن القرآن أنزل بلسانهم)؛ أي بلسان قريش، والمراد معظم القرآن.(عمدة القاري، 20/15)
مما سبق تظهر الصلة الوثيقة بين القرآن الكريم واللغة العربية، فبها نزل، وهي مرجع أصيل في تفسير آياته وبيان معانيه واستنباط الأحكام الشرعية من آياته المنزلة على قلب النبي الأمين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
2 جمادى الآخرة 1442هـ