في آيات التنزيل التي تلقاها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، من رب العالمين، قوله عز وجل:{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ* سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ* بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}(القمر:44-46)
هذه الآيات الثلاث من سورة القمر، تضمنت تحذيراً وتهديداً لحاملي لواء جمع الضلال، المعتزين به، وكأنهم يرتكزون إلى ركن عظيم، فالله جل في علاه توعد جمعهم بالهزيمة، وأنهم سيولون الدبر متقهقرين، ومن وراء ذلك أيضاً وعيد لهم بالساعة التي ستكون وبالاً عليهم، وأشد بكثير مما وجدوه في الدنيا من خيبة الهزيمة وتولية الدبر، يبين الزمخشري في الكشاف، أن معنى قولهم:{نَحْنُ جَمِيعٌ} أي جماعة، أمرنا مجتمع، وقولهم:{مُّنتَصِرٌ} أي ممتنع، لا نرام ولا نضام، وعن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدَّم في الصف، وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي الأدبار، {أَدْهَى} أشدّ وأفظع، والداهية الأمر المنكر، الذي لا يهتدى لدوائه، {وَأَمَرُّ} من الهزيمة والقتل والأسر.(الكشاف:4/439-440)
خلاصة الحلقة السابقة
تصدر الحلقة السابقة حديث أخرجه البخاري في صحيحه، عبر فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن يقينه وثقته بنصر الله له وللإسلام والمسلمين، على الرغم مما كانوا فيه من شدة وبلاء وحصار صعب، وضيق خناق، فدعا ربه أن ينجز له عهده ووعده له بالنصر والتمكين، مذيلاً دعاءه بما يؤكد يقينه وثقته بتغير الحال لصالحه ودينه، وهزيمة أعدائه، فالله جل في علاه طمأنه والثلة المؤمنة معه، إلى أن عنجهية أعدائهم الذين ناصبوهم العداء ستنتهي إلى خيبة، تتمثل في هزيمتهم وتوليتهم الدبر متقهقرين، وذكرت الحلقة أن المقصود بالجمع المشار إليهم في قوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}(القمر:45)، هم كفار قريش وصناديدها، وأن هزيمة ذاك الجمع وأشياعهم من أعداء الأنبياء السابقين، عليهم السلام، تبشر بهزيمة جموع الضلال، وأحزاب الغي في الزمان كله، فجمع قريش قبل هزيمتهم، تمادوا في الغي والعنجهية والصلف، حتى جاءهم أمر الله الموعود، فكانت هزيمتهم مزلزلة، وانقلب على إثرها المشهد، وأعداء الإسلام اليوم سيأتيهم يوم يندمون فيه عما اقترفوا من جرائم ضده، وما ذلك على الله بعزيز.
صلة الوعد بهزيمة الجمع بما سبق من آيات سورة القمر
جاء الوعد بهزم الجمع وتوليتهم الدبر في خواتيم سورة القمر، بعد عرض معظم محاورها التي تضافرت على تأكيد حقيقة القدرة الربانية على إحداث التغيير للأحوال، بلغت شدتها ما بلغت، والانتصار لأنبيائه ودينه، وهزم الطغاة والجبارين، فهو سبحانه على كل شيء قدير، فقبل ختم السورة بخمس آيات قال سبحانه:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر}(القمر:49) جاء في تفسير السعدي، أن هذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، إن الله تعالى وحده خلقها، لا خالق لها سواه، ولا مشاركة في خلقه، وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير، فلهذا قال:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}(القمر:50) فإذا أراد شيئاً قال له كن، فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة ولا صعوبة.(تفسير السعدي:1/828)
جاءت هذه التأكيدات الإيمانية لهذه المعاني الإيمانية بعد آيات تضمنت صوراً من صلف وعناد ولؤم بعض الأمم مع أنبيائهم، مع التركيز على نهايات الظالمين، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون، وتكرر ذكر قوله تعالى في ثناياها:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} بتصوير قرآني بليغ ومؤثر، وقبل ختم آيات سورة القمر بمحاورها المتناسقة، عقب سبحانه بقوله:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} فالهلاك للطغاة والظالمين آت لا محالة، ومما يلفت الانتباه أن التعقيب المستثير والمحفز على الاعتبار والتدبر، بالتساؤل:{فهل من مدكر} تكرر في الآيات الأربع التي تقرر فيها أن الله يسر القرآن للذكر، حيث تكرر قوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} في الآيات: 17و22، و32 و40 من سورة القمر، وقبيل ختم السورة ذات الآيات الخمس وخمسين، جاء التعقيب نفسه المستثير والمحفز على الاعتبار والتدبر، بالتساؤل:{فهل من مدكر} لكن في آية ذكّرت بإهلاك أمثال المعاندين لمحمد، صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، مما يعزز الإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى على تغيير الأحوال مهما اشتد ظلام ليلها.
حقيقة إيمانية راسخة
من منطلق أن دوام الحال من المحال، وظلام الليل سيعقبه بزوغ نور الفجر، وأن الأيام يداولها الله بين الناس، فإن إيماننا راسخ بأن جبروت الظالمين، إلى زوال واندحار، طال الزمن بهم أم قصر، وإننا وأمثالنا ممن يعانون من المتزملين بجمعهم وصلفهم وآلات بطشهم، على يقين بحتمية تغير أحوالنا لنصبح الأعلى، ويتحقق لنا وعد ربنا بالاستخلاف والتمكين، وتبديل حالنا من الخوف إلى الأمن، مصداقاً لقوله عز وجل:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور:55) ويتحقق بنا كذلك وعد رسولنا، صلى الله عليه وسلم، بقوله:(لَا يَزَالُ من أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُمْ، ولا من خَالَفَهُمْ، حتى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ على ذلك)(صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب منه)
سائلين الله العلي القدير أن يحقق بشارته بهزيمة جمع الضالين، وتوليتهم الدبر، كما حققها لحبيبه محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه ووالاه بإحسان إلى يوم الدين.
5 ربيع الثاني 1442هـ