يقول الله تعالى في قرآنه الكريم:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ* فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}(القمر:9-10)
الصراع بين الحق والباطل يتواصل منذ الأزل، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وجولاته اليوم، شهد شبيهاً بها السالفون، ومنهم الأنبياء، عليهم السلام، حين كذبوا، وأوذوا، واضطهدوا، والذين آمنوا معهم، وطفح الكيل بالمصاعب التي واجهتهم، حتى إن نوحاً، عليه السلام، دعا ربه أن ينتصر له، لينقذه من جبروت قومه، كما هو مثبت في الآية القرآنية الكريمة أعلاه من سورة القمر، فقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}، أي قد غلبني الكفار فانتصر لي، أو انتصر لنفسك.(التسهيل لعلوم التنزيل:4/80) ويفسر الزمخشري معنى قوله:{أني مغلوب} أي غلبني قومي، فلم يسمعوا مني، واستحكم اليأس من إجابتهم لي، وقوله: {فَانتَصِرْ} أي فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمر، وبلغ السيل الزبا.(الكشاف:4/434)
الاستعانة بالله
الناس أفراداً وجماعات يحتاجون إلى عون الله في قضاء حاجاتهم كلها، ودفع الشر والضر عنهم، فإذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده، والمؤمن بالله رباً يوقن بهذه الحقيقة، فالمسلم يردد في كل ركعة يصليها قوله تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(الفاتحة:5) والرسول الأسوة، صلى الله عليه وسلم، كان يأخذ بأسباب الشفاء والنصر وكل خير، دون أن يغفل عن دعاء الله، ومن الشواهد البينة على هذا إلحاحه على الله بخالص الدعاء أن ينصره على أعدائه، وهو يستعد لأول لقاء حربي واسع النطاق معهم، ففي الحديث الصحيح عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ، قال: حدثني عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، قال: لَمَّا كان يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، إلى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثلاثمائة وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللهم آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللهم إن تُهْلِكْ هذه الْعِصَابَةَ من أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ في الأرض، فما زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حتى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أبو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ على مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ من وَرَائِهِ، وقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فإنه سَيُنْجِزُ لك ما وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ الله عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ من الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ فَأَمَدَّهُ الله بِالْمَلَائِكَةِ)(صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم)
فالاستعانة بالله يدرك الحاجة إليها دائماً المؤمنون، وقد أوصاهم بها النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال:(احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ولا تَعْجَزْ)(صحيح مسلم، كتاب القدر، باب في الأمد بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله)، وأوصى بها موسى، عليه السلام، قومه، حسب ما جاء في قوله تعالى:{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(الأعراف:128)
الغلبة النهائية والحتمية لله وجنده
العبرة في أي صراع بالنهايات والمآلات، والمتصفح للتاريخ يلحظ أن عربدة أهل الباطل كانت تنتهي بالاندحار، ومصاعب أهل الحق كانت تنتهي بالانتصار، فقد انتهت بدر بانتصار مظفر للمسلمين بقيادة نبيهم، صلى الله عليه وسلم، فنصر الله جنده نصراً أخبر عنه في قرآنه الكريم، فقال عز وجل:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(آل عمران123) ونوح، عليه السلام، لما دعا ربه قائلا:{أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} أجاب الله دعاءه، وسلط على أعدائه جند سمائه، فأنزل عليهم ماء منهمراً، أغرقهم به، جاء ذلك كاستجابة فورية لدعائه عليه السلام، بدليل بدء الخطاب القرآني المتعلق بالإخبار عن هذا الحدث الرباني العظيم بحرف الفاء، الذي يفيد الترتيب والتعقيب، فقال عز وجل: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ* وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ* فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}(القمر:11-17)
جاء في أضواء البيان أن نوحاً، عليه السلام، دعا الله قائلاً: إن قومه غلبوه، وسأل ربه أن ينتصر له منهم، وأن الله انتصر له منهم فأهلكهم بالغرق، لأنه تعالى فتح أبواب السماء بماء منهمر، أي متدفق منصب بكثرة، وأنه تعالى فجر الأرض عيوناً، والأصل فجرنا عيون الأرض، والتفجير إخراج الماء منها بكثرة، و(الـ) في قوله: {فَالْتَقَى المَآءُ} للجنس، ومعناه التقى ماء السماء وماء الأرض، على أمر قدره الله وقضاه، وقيل: إن معناه أن الماء النازل من السماء، والمتفجر من الأرض جعلهما الله بمقدار، ليس أحدهما أكثر من الآخر، والأول أظهر.(أضواء البيان:7/476 -477)
راجين الله العلي القدير أن يهدينا ومن يتدبر بهذه السطور بما تضمنته من آيات قرآنية كريمة لأخذ خير العبر والعظات منها، وأن ييسر سبحانه متابعة التدبر في قول نوح، عليه السلام: {أني مغلوب فانتصر}، حسب المتضمن في آيات التنزيل على قلب نبينا الكريم، محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
22 صفر 1442هـ