.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

بلغ عن ربه دعاء أخيه نوح عليه السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} - الحلقة الثانية

==========================================================

يقول الله تعالى في قرآنه الكريم:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ* فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}(القمر:9-10)
تعرضت الحلقة السابقة للتذكير بأزلية الصراع بين الحق والباطل، والناس أفراداً وجماعات يحتاجون عون الله في قضاء حاجاتهم كلها، ودفع الشر والضر عنهم، مشيرة في هذا السياق إلى تكرار طلب المسلم العون من الله، من خلال قراءة قوله تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في كل ركعة يصليها، وقد أوصى بالاستعانة بالله الأنبياء، منهم محمد وموسى، عليهما الصلاة والسلام، وأشارت الحلقة كذلك إلى حتمية انتصار الحق على الباطل، فالعبرة بالنهايات والمآلات، والمتصفح للتاريخ يلحظ أن عربدة أهل الباطل كانت تنتهي بالاندحار، وبأس أهل الحق وضيقهم كان ينتهي بالانتصار، فنوح، عليه السلام، لما دعا ربه قائلا: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} أجاب الله دعاءه، وسلط على أعدائه جند سمائه، فأنزل عليهم ماء منهمراً، أغرقهم به، ومثل السالفة من جولات الصراع بين الحق والباطل، ستكون الغلبة لله وجنده، في الجولات الحاضرة والقادمة، طال الزمن بذلك أم قصر.
دعاء نوح عليه السلام على قومه

دعا نوح على قومه بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن، وذلك مبين في قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(هود: 36)
وقد بين جل وعلا أن دعاء نوح فيه سؤاله الله أن يهلكهم إهلاكاً مستأصلاً، وتلك الآيات فيها بيان لقوله هنا: {فانتصر} وذلك كقوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}(نوح:26- 27)
يذكر الرازي أن ذلك النداء كان بأمر الله تعالى، لأنه لو لم يكن بأمره لم يؤمن أن يكون الصلاح أن لا يجاب إليه، فيصير ذلك سبباً لنقصان حال الأنبياء، ولأن الإقدام على أمثال هذه المطالب لو لم يكن بالأمر لكان ذلك مبالغة في الإضرار، وقال آخرون إنه عليه السلام لم يكن مأذوناً له في ذلك.(التفسير الكبير، 22/16)

الإنجاء من الكرب العظيم
ما تضمنته الآية الكريمة من دعاء نوح ربه جل وعلا، أن ينتصر له من قومه، فينتقم منهم، وأن الله أجابه فانتصر له منهم، فأهلكهم جميعاً بالغرق في هذا الماء المتلقى من السماء والأرض، احتفت بذكر ذلك آيات أخر من القرآن الكريم، كقوله تعالى في الأنبياء: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}(الأنبياء:76-77)
وقوله تعالى في الصافات: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}(الصافات:75-82)
يبين الرازي أن نوحاً، عليه السلام، وأهله كانوا في كرب عظيم، قبل أن يسعفهم الله بالنجاة منه، والمراد بالأهل ها هنا أهل دينه، وفي تفسير الكرب وجوه؛ أحدها أنه العذاب النازل بالكفار، وهو الغرق، وهو قول أكثر المفسرين، وثانيها أنه تكذيب قومه إياه، وما لقي منهم من الأذى، وثالثها أنه مجموع الأمرين، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنهما، وهو الأقرب؛ لأنه عليه السلام كان قد دعاهم إلى الله تعالى مدة طويلة، وكان ينال منهم كل مكروه، وكان الغم يتزايد بسبب ذلك، وعند إعلام الله تعالى إياه أنه يغرقهم، وأمره باتخاذ الفلك، كان أيضاً على غم وخوف، من حيث لم يعلم من الذي يتخلص من الغرق، ومن الذي يغرق، فأزال الله تعالى عنه الكرب العظيم، بأن خلصه من جميع ذلك، وخلص جميع من آمن به معه.(التفسير الكبير، 22/167- 168)
وفي سورة هود ذكر للاستجابة الربانية لدعاء نوح، عليه السلام، في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}(هود:40)
والنجاة من الكرب العظيم لم تقتصر على نوح، عليه السلام، وأهله، فذكر الله في قرآنه الكريم ما كان لموسى وهارون، عليهما السلام منها، فقال عز وجل: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ* وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}(الصافات: 114-116)، والمعنى أنه نجّى موسى وهارون وقومهما من الكرب العظيم، وهو ما كان يسومهم فرعون وقومه من العذاب، كذبح الذكور من أبنائهم، وإهانة الإناث، وكيفية إنجائه لهم مبيّنة في انفلاق البحر لهم، حتى خاضوه سالمين، وإغراق فرعون وقومه وهم ينظرون.(أضواء البيان، 6/319)
راجين الله العلي القدير أن يهدينا لاستنباط خير العبر والعظات من قصص الغابرين، وأن ييسر سبحانه متابعة التدبر في قول نوح عليه السلام: أني مغلوب فانتصر، حسب المتضمن في آيات التنزيل على قلب نبينا الكريم، محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
29 صفر 1442هـ

تاريخ النشر 2020-10-16
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس