.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

بلغ عن ربه دعاء أخيه نوح، عليه السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} - الحلقة الثالثة والأخيرة

==========================================================

يقول رب البرية جل في علاه: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} (نوح:26-27(
وقفت الحلقة السابقة عند بعض أبعاد دعاء نوح، عليه السلام، ربه أن ينتصر له على قومه، بعد إدراكه أنه مغلوب بقوته البشرية، أمام جبروتهم وطغيانهم، وقد جاء هذا الدعاء بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن، ودعاء نوح فيه سؤاله الله أن يهلكهم إهلاكاً مستأصلاً، كما هو واضح في الآية القرآنية المثبت نصها أعلاه من سورة نوح، والنجاة من الكرب العظيم لم تقتصر على نوح، عليه السلام، وأهله، فذكر الله نجاة موسى وهارون، عليهما السلام، وقومهما منه.

الاتعاظ من عاقبة الغابرين
دعاء نوح، عليه السلام، ربه أن ينتصر له من قومه، وبما كان من قصة ذاك الانتصار العظيم، الذي تم فيه إغراق الظالمين بماء السماء المنهمر، الذي التقى بماء الأرض، على أمر قد قدر، والتذكير بهذه القصة التاريخية وأمثالها في القرآن الكريم، يهدف إلى استخلاص العظات والعبر، مصداقاً لما جاء في قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ* لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 109-111)
فالله جل في علاه يجمل في هذه الآيات الكريمة معاناة الأنبياء مع معانديهم ومناصبيهم العداء، ونهاية المطاف الذي آلت إليه الأمور بين الطرفين، حيث أسعف الله أنبياءه، عليهم السلام، بنصره المؤزر، ومما يسترعي المزيد من الانتباه ذكر هذه الآيات الكريمة الهدف من التذكير بقصص الأنبياء مع أقوامهم، وما آلت إليهم عاقبة الكافرين، فقال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} يقول الرازي: اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، والمراد منه التأمل والتفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور:
الأول: أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب، بعد المدة الطويلة، لقادر على إعزاز محمد، صلى الله عليه وسلم، وإعلاء كلمته.
الثاني: أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزة دالة على صدق محمد، صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أنه ذكر في أول السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: 3)، ثم ذكر في آخرها: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِي الالْبَابِ} تنبيهاً على أن حسن هذه القصة، إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة، ومعرفة الحكمة والقدرة، والمراد من قصصهم قصة يوسف، عليه السلام، وإخوته وأبيه، ومن الناس من قال: المراد قصص الرسل؛ لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل، إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف، عليه السلام.
فإن قيل لم قال: {عِبْرَةٌ لأوْلِي الالْبَابِ} مع أن قوم محمد، صلى الله عليه وسلم، كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك، ردَّ الرازي على ذلك بأن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة، كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل، أو نقول المراد من أولي الألباب، الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها، وانتفعوا بمعرفتها؛ لأن {أُوْلِي الألْبَابِ} لفظ يدل على المدح والثناء، فلا يليق إلا بما ذكرناه. (التفسير الكبير، 18/181 - 182)

استيئاس الرسل، عليهم السلام
المراد من استيئاس الرسل المذكور في الآيات سالفة الذكر، يحتمل أن يكون من النصر، أو من إيمان قومهم، على اختلاف تأويل المفسرين في ذلك، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوءة، أو فيما توعدوهم به من العذاب لما طال الإمهال، واتصلت العافية، فلما كان المرسل إليهم على هذا التأويل مكذبين، بني الفعل للمفعول في قوله: {كُذِبُواْ} هذا مشهور قول ابن عباس وابن جبير. (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 3/288)
ومن وجوه الاتعاظ من نصر الرسل، عليهم السلام، بعد أن بلغوا مرحلة استيئاس اليقين بأن نصر الله قريب، وإمهال الظالمين ينبغي أن لا يخدع أولي الألباب، فالله يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم، فإذا قرر أن يأخذه يكون ذلك من لدن عزيز مقتدر.
وهذه الحقائق الإيمانية ينبغي أن يوقن بها المؤمنون، حتى وقلوبهم تبلغ الحناجر من قسوة المحن، ومخاطر الاقتلاع والاجتثاث، فالله غالب على أمره، ونصر الله لعباده قريب، وبشر المؤمنين.
راجين الله العلي القدير أن يهدينا لأخذ خير العبر والعظات من قصص الغابرين، ومن ذلك هلاك قوم نوح، عليه السلام، والذي أوقعه الله بهم؛ استجابة لدعاء نبيه نوح، عليه السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}حسب المتضمن في آيات التنزيل على
قلب نبينا الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
6 ربيع أول 1442هـ

تاريخ النشر 2020-10-23
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس