.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

بلَّغه الله قول أخيه نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِله وَقَارًا} - الحلقة الثانية

==========================================================

يقول الله تعالى على لسان نوح، عليه السلام: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} (نوح:21)
وقفت الحلقة السابقة عند آيتين قرآنيتين عبرتا عن معان عظيمة، أوردهما الله جل في علاه على لسان نبيه نوح، عليه السلام، خلال محاورته الدعوية لقومه، لاستنباط العظات والعبر منهما، ومضمونهما له دلالته الدعوية، وما زالت الحاجة ماسة إلى تدبره لخدمة جانب مهم من جوانب الدعوة إلى الإسلام، وهو الجانب العقائدي التأملي المبصر، وأجملت الحلقة أقوالاً للعلماء في معاني الرجاء والوقار والأطوار، ووقفت كذلك عند الجزء الأول من السياق الذي وردت فيه هاتان الآيتان الكريمتان، وفيما يأتي استكمال النظر في الجزء الآخر من هذا السياق من سورة نوح، حسب ما جاء في صفوة التفاسير.
الجزء الثاني من السياق الذي ورد فيه قول نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}
آيات سورة نوح عددها ثمانٍ وعشرون، في منتصفها جاءت الآيتان {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح:13-14) وبعد الاطلاع على مضامين الآيات التي سبقتهما ومعانيها، وصلتها بهما، يتبين أنه بعد أن هز نوح نفوس متلقي دعوته هزاً، وعطفها نحو الإِيمان بأسلوب آخر من أساليب البيان، فقال: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} أي ما لكم أيها القوم لا تخافون عظمة الله وسلطانه، ولا ترهبون له جانباً؟! تم عرض السياق التالي لهما حتى نهاية السورة، فنبههم إلى أن دلائل القدرة والوحدانية، منبثة في هذا الكون الفسيح، فقال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي ألم تشاهدوا يا معشر القوم عظمة الله وقدرته، وتنظرون نظر اعتبار وتفكر وتدبر، كيف أن الله العظيم الجليل خلق سبع سماوات، سماء فوق سماء، متطابقة بعضها فوق بعض، وهي في غاية الإِبداع والإِتقان؟؟!! {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} أي وجعل القمر في السماء الدنيا، منوراً لوجه الأرض في ظلمة الليل، قال الإِمام الفخر: القمر في السماء الدنيا وليس في السماوات بأسرها.
{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} أي وجعل الشمس مصباحاً مضيئاً يستضيء به أهل الدنيا، كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم، ولما كان نور الشمس أشدّ، وأتم، وأكمل في الانتفاع من نور القمر، عبر عن الشمس بالسراج؛ لأنه يضيء بنفسه، وعبر عن القمر بالنور؛ لأنه يستمد نوره من غيره، ويؤيده ما تقرر في علم الفلك من أن نور الشمس ذاتي فيها، ونور القمر عرضي مكتسب من نورها، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} بعد أن ذكر دليل الآفاق، ذكر هنا دليل الأنفس، وذلك لأن في ذكر هذه الأمور، دلالة واضحة على عظمة الله، وقدرته وباهر مصنوعاته، والمعنى خلقكم وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات، وسلَّكم من تراب الأرض كما يسل النبات منها، قال المفسرون: لما كان إخراجهم وإِنشاؤهم إنما يتم بتناولهم عناصر الغذاء الحيوانية والنباتية المستمدة من الأرض، كانوا من هذه الجهة مشابهين للنباتات التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض، فلذا سمى خلقهم وإنشاءهم إنباتاً، أو يكون ذلك إشارة إلى خلق آدم، حيث خلق من تراب الأرض، ثم جاءت منه ذريته، فصح نسبتهم إلى أنهم أنبتوا من الأرض.
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} أي يرجعكم إلى الأرض بعد موتكم فتدفنون فيها، ثم يخرجكم منها يوم البعث والحشر للحساب والجزاء، وأكده بالمصدر {إِخْرَاجًا} لبيان أن ذلك واقع لا محالة، وهذه الآية كقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}(طه: 55)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} أي جعلها فسيحة ممتدة ممهدة لكم، تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه، ومعنى جعلها بساطاً أي تتقلبون عليها كالبساط {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} أي لتسلكوا في الأرض طرقاً واسعة في أسفاركم، وتنقُّلكم في أرجائها؟؟ (صفوة التفاسير: 3- 428-429)
فهذه الآيات الكريمة بمضامينها تدل على عظمة الخالق سبحانه، وهي تؤكد استقباح عدم توقيره سبحانه وتعظيمه، حسب ما دل عليه سؤال نوح، عليه السلام، لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}؟؟!! وهذا السؤال جدير بالطرح على سمع الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة والظروف، ومن المؤكد واقعياً أن الإجابات عن هذا التساؤل تتفاوت من قبل الخلق.
ما انتهى إليه موقف نوح، عليه السلام، من مكر قومه وعصيانهم
قبل أن يحسم نوح، عليه السلام، موقفه النهائي من مكر قومه وعصيانهم، قدم تبريراً لموقفه بالقول المنسوب إليه في الآية 21 من سورة نوح، والمثبت نصه أعلاه: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} فهم لما أصروا على العصيان، وقابلوه بأقبح الأقوال والأفعال، حكى عنهم ما قصه القرآن: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} أي إنهم بالغوا في تكذيبي وعصيان أمري {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} أي واتَّبعوا أغنياءهم ورؤساءهم، الذين أبطرتهم الأموال والأولاد، فهلكوا وخسروا سعادة الدارين، فصاروا أسوة لهم في الخسار {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} أي ومكر بهم الرؤساء مكراً عظيماً متناهياً في الكبر، قال الألوسي: و{كُبَّارًا} مبالغة في الكبر؛ أي كبيراً في الغاية، وذلك احتيالهم في الدين، وصدهم الناس عنه، وإغراؤهم وتحريضهم على أذية نوح، عليه السلام: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي لاتتركوا عبادة الأوثان والأصنام، وتعبدوا رب نوح {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} أي ولا تتركوا على وجه الخصوص هذه الأصنام الخمسة: (وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً) قال الصاوي: وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمهم عندهم، ولذا خصوها بالذكر، وهذا من شدة كفرهم، وفرط تعنتهم في المكر والاحتيال، فقد كانوا يلبسون ثوب المتنصح المخلص، ويسلكون في تثبيت الضعفاء على عبادة الآباء شتى الأساليب في المكر والخداع {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} أي وقد أضل كبراؤهم خلقاً وناساً كثيرين، بما زينوا لهم من طرق الغواية والضلال.
ثم دعا عليهم بالضلال فقال: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} أي ولا تزدهم يا رب على طغيانهم وعدوانهم، إلا ضلالاً فوق ضلالهم، قال المفسرون: دعا عليهم لما يئس من إيمانهم بإِخبار الله له بقوله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}(هود: 36)، فاستجاب الله دعاءه وأغرقهم، ولهذا قال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}؛ أي من أجل ذنوبهم وإجرامهم، وإصرارهم على الكفر والطغيان، أُغرقوا بالطوفان، وأدخلوا النيران، قال في التسهيل: وهذا من كلام الله تعالى إخباراً عن أمرهم، و{ما} في {مِمَّا} زائدة للتأكيد، وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضاً، ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار إنما كان بسبب خطاياهم، وهي الكفر وسائر المعاصي {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} أي لم يجدوا من ينصرهم أو يدفع عنهم عذاب الله، قال أبو السعود: وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، وأنها غير قادرة على نصرهم، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} أي لا تترك أحداً على وجه الأرض من الكافرين، قال في التسهيل: و{دَيَّارًا} من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما في الدار ديار أي ما فيها أحد، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} أي إنك إن أبقيت منهم أحداً، أضلوا عبادك عن طريق الهدى {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} أي ولا يأتي من أصلابهم إلا كل فاجر وكافر، قال الإِمام الفخر: فإِن قيل: كيف عرف نوح ذلك؟ وذلك بالاستقراء، فإِنه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: يا بني احذر فإِنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، فلذلك قال: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}.
ولما دعا على الكفار أعقبه بالدعاء للمؤمنين، فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بدأ بنفسه ثم بأبويه، ثم عمَّم للمؤمنين والمؤمنات جميعهم، ليكون ذلك أبلغ وأجمع {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} أي ولا تزد يا رب من جحد بآياتك وكذب رسلك، إلا هلاكاً وخساراً في الدنيا والآخرة.(صفوة التفاسير: 3/429-430)
فهذه وقفة أخرى عند قول نوح، عليه السلام، لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} شملت استكمال الحديث عن الجزء الثاني من السياق الذي ورد فيه هذا القول، مع بيان ما انتهى إليه موقف نوح، عليه السلام، من مكر قومه وعصيانهم، سائلين الله أن ييسر استخلاص ما يتيسر من العظات والعبر من هذه القصة القرآنية، التي نتعبد لله بتلاوة الآيات التي تضمنتها، وبغلنا إياها خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
9 ذو القعدة 1445هـ

تاريخ النشر 2024-05-17
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس