عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ). (صحيح البخاري، كتاب العمرة، باب السفر قطعة من العذاب)
وقفت الحلقة السابقة عند الحث على المسارعة للتحلل من حقوق الناس، والذمم الواجبة لهم قبل فوات الأوان، ومجيء الغد المنظور، حيث الحساب والقصاص، ولا ينفع الندم، ومما ينسجم مع مبدأ المسارعة للخير، المسارعة لأداء الحج لمن فرض عليه واستطاع إليه سبيلاً، فلا يدري المرء ما سيجري في قابل الزمان، وأبيح في الحج التعجل عند الرمي في يومين، حسب المشروع في السنة النبوية، وعملاً بما نص عليه القرآن الكريم حول التعجل المشروع في ذلك، ومن الاستعجال المشروع في الإسلام، بل والمحثوث عليه، تعجل الصائم في الفطر عند غروب شمس يوم صومه، ومنه التعجل للذهاب لصلاة الجمعة، والسبق إليها، ومنه تعجل العودة من السفر.
تعجل العودة من السفر
السفر شق من العذاب، وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، ذكر أنه: (قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ) أي جزء منه، جاء في عمدة القاري أن المراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة، وقوله: (يمنع أحدكم) جملة استئنافية، فلذلك فصلها عما قبلها، وهي في الحقيقة جواب عما يقال: لم كان السفر كذلك؟ فقال: لأنه يمنع أحدكم طعامه؛ أي لذة طعامه، وقال الخطابي: يريد أنه يمنعه الطعام في الوقت الذي يستوفيه منه لغدائه وعشائه، والنوم كذلك يمنعه في وقته، واستيفاء القدر الذي يحتاج إليه، والمراد بالمنع في الأشياء المذكورة ليس منع حقيقتها، وإنما المراد منع كمالها على ما لا يخفى، وقوله: "فإذا قضى نهمته" بفتح النون وسكون الهاء، أي حاجته، وقال ابن التين وضبطناه أيضا بكسر النون، وقيل: النهمة بلوغ الهمة بالشيء، وهو منهوم بكذا، أي مولع لا ينشرح، وتقول: قضيت منه نهمتي، أي حاجتي، وعن أبي زيد: المنهوم الذي يمتلئ بطنه، ولا تنتهي حاجته، وقوله: (فليعجل إلى أهله) وفي رواية : (فليعجل الرجوع إلى أهله).
ومما يستفاد من الحديث كراهة التغرب عن الأهل بغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع، ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما فيها من تحصيل الجماعات والجمعات، والقوة على العبادات، والعرب تشبه الرجل في أهله بالأمير. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري 10 /138)
عجلة الاستجابة لطلب النصر وغيره
دعا الله عباده أن يدعوه، ووعدهم بالاستجابة لدعائهم، فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60)
ووعد سبحانه سائليه حاجاتهم بإجابة دعائهم، فقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186)
وعلى الرغم من الحث على النهي عن استعجال إجابة الدعاء، فإن الاستجابة الفورية تتحقق في بعض الظروف والأحيان، وقد عبر القرآن الكريم عن سرعة الاستجابة لدعاء طالبي النصر وغيره، باستخدام حرف "الفاء" في مقدمة لفظ الاستجابة، مما يعني الترتيب والتعقيب، بخلاف "ثم" التي تعني الترتيب والتراخي، ومن الشواهد القرآنية المخبرة عن وقائع من هذا القبيل، قوله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال:9)
يبين محمد الطاهر بن عاشور أن الِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْإِعَانَةُ عَلَى رَفْعِ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ، وَلَمَّا كَانُوا يَوْمَئِذٍ فِي شِدَّةٍ وَدَعَوْا بِطَلَبِ النَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ الْقَوِيِّ، كَانَ دُعَاؤُهُمُ اسْتِغَاثَةً.
{فَاسْتَجابَ لَكُمْ} أَيْ وَعَدَكُمْ بِالْإِغَاثَةِ، وَفِعْلُ اسْتَجَابَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الطَّلَبِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ تَحْقِيقُ الْمَطْلُوبِ. (التحرير والتنوير، 9 /274)
ومثل هذه السرعة والفورية في الاستجابة كانت لدعاء يوسف، عليه السلام، لما قال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ* فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يوسف:33-34)
وأخبر القرآن الكريم عن الاستجابة الربانية الفورية، لزكريا، عليه السلام، لما دعاه، فقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:89-90)
واستجاب الله للذين يذكرونه قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، الذين يدعونه بقولهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ* فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (آل عمران:194-195)
فهذه نماذج قرآنية دالة على الاستجابة الربانية الفورية لدعاء عباده وأصفيائه، المؤمنين بقضاء الله وقدره، والراضين المحتسبين، والموقنين بأن كل شيء عند الله بمقدار، فلا يتأففون ولا يتضجرون ولا يسأمون ولا يحبطون، وإنما يحافظون على رباطة الجأش، وتوثيق الصلة بربهم في البـأساء والضراء والنصر والرخاء، ويقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران:8)
خلاصة الحلقات السبع السابقة
بهذه الوقفة الختامية عند صور من الاستعجال المحمود حسب المبين في هذه الحلقة، وعما ذكر في مقدمتها عن خلاصة الحلقة السابقة، نختم ما تيسر من وقفات سلفت عند محاور وأبعاد عبارة: (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) التي دار الحديث في الحلقات الخمس الأولى منها حول أنواع من الاستعجال المذموم المتعلق بـ: أبعاد ذات صلة بحديث خباب بن الأرت المخبر عن شكوى بعض الصحابة للنبي، صلى الله عليه وسلم، ليدعو الله لهم ويستنصر، ومضمون رده، عليه الصلاة والسلام، على شكواهم، وأن الصعاب يلزمها صبر وتقويم واع ومبصر، للخروج منها بأقل الخسائر، والانطلاق لواقع جديد يتحقق فيه النهوض من الكبوات، وجني ثمار الخيرات، وذلك لا يتم بالاستعجال، وأن القرآن الكريم أشار إلى خاصية العجلة، والاستعجال التي جبل الله الناس عليها، وأن الإنسان بدافع العجلة يهرول ساعياً لنيل ميزات قد يكون الشر كامناً فيها، أو يطلب الشر لنفسه أو لمحبيه في ظروف عارضة، وذم استعجال إجابة الدعاء، التي تكون على أنواع وأشكال، وتأخرها أو تقدمها لا يتعلق حتماً بالخير أو الشر، والمُستَعجَل به يُستجلب بأمر الله وحده، والدعاء عبادة يحبها الله، لكن نتائجه ينبغي أن تترك له سبحانه وحده، ووصف الله شريحة من الناس بأنهم يحبون العاجلة، أي الدنيا، ونهى الله النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، عن التعجل بحفظ ما يوحى إليه من القرآن الكريم، فنهي عن تحرِيك لسانه بالقرآن بِهِ لِيعْجَلَ بِهِ، ونهاه سبحانه عن التعجل بالقرآن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إليه وحيه، وفي مقابل النهي عن الاستعجال تم الثناء على الأناة، ومن المجالات التي يحمد فيها التأني، القدوم للصلاة والمشي إليها، فذلك أقرب للخشوع.
ومن الاستعجال المذموم استعجال المشركين بالعذاب وبالسيئة، واستعجال السيئة قبل الحسنة، والمراد بالسيئة هنا العذاب والعقوبة، وضرب الله أمثلة في القرآن الكريم للاعتبار والاتعاظ، بعذابه الذي وقع على المستعجلين به، ومن هذه الأمثلة، ما جرى لعاد قوم هود.
وفي الحلقة الخامسة تم الوقوف عند خطاب الله الموجه لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، في الآيات 70-72 من سورة النمل، المتضمن قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي: قرب منكم وأوشك أن يقع بكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب. وآيات قرآنية عديدة أشارت بطريقة أو بأخرى إلى وقوع العذاب المستعجل به بالمستعجلين، لكن في الأوقات والظروف والأوصاف التي يريدها الله جل شأنه، والْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ فِي الدُّنْيَا تَعْجِيلَ الْعَذَابِ كُفْرًا وَعِنَادًا، فَإِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ آمَنُوا، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ وَحُضُورِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ.
ومن الأمثلة القرآنية التي أشير فيها لقضية العجلة والاستعجال، ما كان في قصة موسى مع قومه.
وبعد عرض قضايا وموضوعات تتعلق بالاستعجال المذموم، أو غير المرغوب فيه، تم عرض أنواع من الاستعجال الإيجابي والمحمود، الذي يرغب الشرع فيه، ومنه: الاستباق إلى التهجير، الذي يعني السير في الهاجرة، وهي شدة الحر، ويدخل في معناه المسارعة إلى الصلوات كلها قبل دخول أوقاتها، ومن الاستعجال المحمود المسارعة إلى المغفرة والجنة، وهي على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة، وأسباب دخول الجنة، وأمر سبحانه بالسبق إلى المغفرة، ويعني هذا الْأَمْرُ بالْمُسَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَجَنَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ بِالْمُبَادَرَةِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وأمر الله باستباق الخيرات، يعني المبادرة إلى الأعمال الصالحات، والمراد عموم الخيرات كلها، ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هادم اللذات، وفجأة الفوات، والتوبة تقتضي المبادرة إليها والمسارعة، لذا فمن ميزات أهل الفطنة المسارعة إلى التوبة، وأن يتوبوا من قريب، والمراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، أو التوبة قبل معاينة الموت.
وأمر الله بالفرار إليه سبحانه، والفرار: هو الهروب، أي سرعة مفارقة المكان تجنباً لأذى يلحقه فيه، فالمطلوب فرار من معاصي الله إلى طاعاته، فروا إليه بالتوبة الصادقة، والإيمان السليم، واقصدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، ولا تجعلوا معه إلهاً آخر.
وقانا الله شر استعجال العذاب والسوء، وهدانا لما يحبه ويرضاه، وأكرمنا بحسن الختام في الدنيا لننال خير المقام في الآخرة، إنه سبحانه سميع بصير، وبالإجابة قدير، وبيده جل في علاه تسيير الأمور لصالح المتقين الذين وعدهم بالنصر والتمكين في الدنيا، وبجنات وعيون في الآخرة.
ونسأله سبحانه أن ينفع بهذا التذكير المؤمنين، وخاصة المبتلين بالمحن وهم يواجهون الشدائد والآلام بإيمان وصبر وجلد، واطمئنان لحتمية الفرج الذي سيبزغ فجره مهما طال ظلام الليل، واشتدت حلكته، آخذين الدروس والعبر والعظات والبلسم من الإشارة إلى خاصية الاستعجال؛ «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» التي أشير إليها في حديث نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
27 جمادى الأولى 1446هـ