.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

قال للشاكين من ضراوة الأحوال: «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» - الحلقة السابعة

==========================================================

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ). (صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب من كانت له مظلمة عند الرجل محللها له، هل يبين مظلمته)
وقفت الحلقة السابقة عند أنواع من الاستعجال الإيجابي المحمود، الذي يُرغب الشرع به، ومنه: الاستباق إلى التهجير، الذي يعني السير في الهاجرة، وهي شدة الحر، ويدخل في معناه المسارعة إلى الصلوات كلها قبل دخول أوقاتها؛ ليحصل لمن يفعل ذلك فضل الانتظار قبل الصلاة. وهذا يعني أن الاستباق يكون بالتبكير، بأن يسبق غيره في الحضور إلى الصلاة. ومن الاستعجال المحمود المسارعة إلى المغفرة والجنة، وهي على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة، وأسباب دخول الجنة، وأمر سبحانه بالسبق إلى المغفرة، ويعني هذا الْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَجَنَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ بِالْمُبَادَرَةِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وأمر الله باستباق الخيرات، يعني المبادرة إلى الأعمال الصالحات.
والاستباق افتعال، والمراد به السبق، والمعنى هنا مجازي، وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه، و{الخيرات} جمع خير على غير قياس، والمراد عموم الخيرات كلها، ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هادم اللذات، وفجأة الفوات، والتوبة تقتضي المبادرة إليها والمسارعة، فمقترف الذنب لا يدري هل يدرك التوبة، أو يفوته الأوان دون ذلك، لذا فمن ميزات أهل الفطنة المسارعة إلى التوبة، وأن يتوبون من قريب، والمراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، أو التوبة قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعاً. وأما بعد حضور الموت، فلا يُقبل من العاصين توبة، ولا من الكفار رجوع.
وأمر الله بالفرار إليه سبحانه، والفرار: هو الهروب، أي سرعة مفارقة المكان تجنباً لأذى يلحقه فيه، فالمطلوب فرار من معاصي الله إلى طاعاته، فروا إليه بالتوبة الصادقة، والإيمان السليم، واقصدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، ولا تجعلوا معه إلهاً آخر، ورسول اللّه، صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى أنه رسول فهو نذير مبين بين يدي عذاب شديد. وهذا تعليل للأمر بالفرار إليه تعالى، أو لوجوب الامتثال به.
التحلل من الذمم اليوم قبل مجيء الغد المنظور
النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث المثبت نصه أعلاه، الذي يرويه عنه الصحابي أبو هريرة، رضي الله عنه، يحث على المبادرة والمسارعة للتحلل من حقوق الناس قبل فوات الأوان، والمقصود بالمظلمة المذكورة في هذا الحديث، المأخوذ عند المرء بغير حق.
وقوله: "من كانت له" قال بعضهم: اللام فيه بمعنى على، أي من كانت عليه مظلمة لأخيه، ويقول العيني: أنْ لا حاجة لذلك، بل اللام هنا بمعنى عند، كقولهم كتبته لخمس خلون، والدليل عليه ما رواه البخاري عن مالك عن المقبري في الرقاق بلفظ: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا" (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة) والأحاديث يفسر بعضها بعضاً.
وقوله: "مظلمة" قال ابن مالك مظلمة بفتح اللام وكسرها، والكسر أشهر، وقوله: "من عِرضه" بكسر العين، وعِرض الرجل موضع المدح والذم منه، سواء أكان في نفسه أم في سلفه أم من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص أو يثلب. وقال ابن قتيبة: عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير.
وقوله: "أو شيء" أي من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص، فيدخل فيه المال بأصنافه، والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وقوله: "فليتحلله" قال الخطابي: معناه يستوهبه، ويقطع دعواه عنه؛ لأن ما حرم الله من الغيبة لا يمكن تحليله، وجاء رجل إلى ابن سيرين، فقال: اجعلني في حل، فقد اغتبتك، فقال: إني لا أحل ما حرم الله تعالى، ولكن ما كان من قِبلنا فأنت في حل.
ويقال: معنى "فليتحلله" إذا سأله أن يجعله في حل، يقال: تحللته واستحللته.
وقوله: "اليوم" أراد به في الدنيا. وقوله: "قبل أن لا يكون دينار ولا درهم" يعني يوم القيامة.
وقوله: "إن كان له عمل صالح إلى آخره" معنى أخذ الحسنات والسيئات لظالم عقوبة سيئاته، قال الكرماني: فإن قلت ما التوفيق بينه وبين قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164 والإسراء: 51 وفاطر: 18 والزمر: 7)؟ وأجاب العيني عن هذا بأنه لا تعارض بينهما؛ لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه، ولم يعاقب بغير جناية منه؛ لأنه لما توجهت عليه حقوق للغرماء دفعت إليهم حسناته، ولما لم يبق منها بقية قوبل على حسب ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده، فأخذوها من سيئاته، فعوقب بها.
ومما يستفاد من هذا الحديث أنه إذا اغتاب رجل رجلاً، فإن كان بلغ القول منه ذلك، فلا بد أن يستحل، وإن لم يبلغه استغفر الله، ولا يخبره، وأما التحلل في المال، فإنما يصح ذلك في أمر معلوم، وقال بعض أهل العلم: إنما يصح ذلك في المنافع التي هي أعراض، مثل أن يكون قد غصبه داراً فسكنها، أو دابة فركبها، أو ثوباً فلبسه، أو يكون أعياناً فتلفت، فإذا تحلل منها صح التحلل، فإن كانت الدار قائمة والدراهم في يده حاصلة لم يصح التحلل منها إلا أن يهب أعيانها منه، فتكون هبة مستأنفة. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 12 /294)
التعجل إلى الحج
التعجل لأداء الحج لمن فرض عليه، واستطاع إليه سبيلاً، أمر ينسجم مع مبدأ المسارعة للخير، فلا يدري المرء ما سيجري في قابل الزمان، فقد تتاح له فرصة لأداء الحج مرة أخرى وقد لا تتاح، إذ قد تحدث موانع تعرقل التمكن من أدائه لأسباب شخصية؛ كالأمراض، وضيق ذات اليد، ولأسباب عامة من أبرزها التزاحم على أداء الحج في ظل العدد المحدود المتاح. وعن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله، صلى الله عليه و سلم، فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَليْكم الْحجَّ فَحُجُّوا" (صحيح مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر)
ومن التعجل المسموح به شرعاً في الحج، ما أشير إليه في قوله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة:203)
أي أَنَّ الْحَاجَّ يَرْجِعُ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ إِثْمٌ، سَوَاءٌ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ تَأَخَّرَ إِلَى الثَّالِثِ، وَلَكِنَّ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ هَذَا مَشْرُوطٌ بِتَقْوَاهُ رَبَّهُ فِي حَجِّهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنِ اتَّقَى} أَيْ وَهَذَا الْغُفْرَانُ لِلذُّنُوبِ، وَحَطُّ الْآثَامِ إِنَّمَا هُوَ لِخُصُوصِ مَنِ اتَّقَى. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 5 /111)
فالتعجل في الرمي حسب المشروع في السنة النبوية، وعملاً بما نص عليه القرآن الكريم، نوع من أنواع التعجل المشروع.
تعجيل الفطر
من الاستعجال المشروع في الإسلام، بل والمحثوث عليه، تعجل الصائم في الفطر عند غروب شمس يوم صومه، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ). (صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار)
قال المهلب: إنما حض عليه السلام، على تعجيل الفطر لئلا يزاد في النهار ساعة من الليل ، فيكون ذلك زيادة في فروض الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم، وأقوى له على الصيام. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 4 /104)
وفي تعجيل الإفطار إظهار العجز المناسب للعبودية، ومبادرة إلى قبول الرخصة من الله جل في علاه. (تحفة الأحوذي، 3/315)
ويكون التعجل بالفطر ولو بشربة ماء، وليس شرطاً تناول وجبة الإفطار كاملة.
التعجل لأداء صلاة الجمعة
ومن أنواع التعجل المشروع وله الفضل في العبادات التعجل للذهاب لصلاة الجمعة، والسبق إليها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ المَلَائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) (صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة)
"المهجر" أي المبكر إلى المسجد، وقوله: "يهدي" أي يقرب. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 6/229)
قال الطيبي: أي الداخل الأول. والفاء فيه، و"ثم" في قوله: "ثم كالذي يهدي بقرة" كلتاهما لترتيب النزول من الأعلى إلى الأدنى، لكن في الثانية تراخ ليس في الأولى. (مشكاة المصابيح مع شرحه مراعاة المفاتيح، 4 /915)
فهذا الحديث الشريف يبين فضل التبكير لأداء صلاة الجمعة، مما يعني المسارعة لذلك، إذ إن الفرق شاسع في مجازاة الأول من المبكرين عن آخر القادمين لأدائها في وقتها المشروع.
فهذه وقفة عند مجالات أخرى للاستعجال المحمود والمشروع، شملت التذكير بالحث على التحلل من الذمم اليوم قبل مجيء الغد المنظور، والتعجل إلى الحج، وتعجيل الفطر، والتعجل لأداء صلاة الجمعة، آملين ختم الحديث لاحقاً عن هذا الموضوع، وإجمال السابق منه في ضوء ما جاء في الهدي القرآني، وسنة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
20 جمادى الأولى 1446هـ

تاريخ النشر 2024-11-22
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس