يثني الله في قرآنه الكريم، على حافظي الأمانات والعهود، فيقول عز وجل:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}(المؤمنون:8 والمعارج:32)
هذه الآية الكريمة تضمنتها سورتان قرآنيتان، هما المؤمنون والمعارج، جاء في أضواء البيان، أن الله جل وعلا، ذكر في هذه الآية الكريمة أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس، أنهم محافظون على الأمانات والعهود، والأمانة تشمل كل ما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس، والعهود أيضاً تشمل كل ما أخذ عليك العهد بحفظه من حقوق الله، وحقوق الناس، وقوله: {راعون} جمع تصحيح للراعي، وهو القائم على الشيء بحفظ، أو إصلاح، كراعي الغنم، وراعي الرعية.(أضواء البيان:5/319-320)
ويخاطب الله المؤمنين، ناهياً عن خيانة الله والرسول والأمانات، فيقول عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(الأنفال:27)
يذكر الزمخشري أن معنى الخون النقص، كما أن معنى الوفاء التمام، ومنه تخوّنه إذا تنقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء؛ لأنك إذا خنت الرجل في شيء، فقد أدخلت عليه النقصان فيه.(الكشاف:2/202)
ومن أسمى الأمانات التي يجب على المؤمنين حفظها، مقدسات الأمة ودينها، ومن أبرزها المسجد الأقصى المبارك، مسرى النبي محمد، صلى الله عليه سلم، وقبلة المسلمين الأولى، وفي المقابل يحرم عليهم خيانته والتخاذل عن نصرته، أو التفريط بذرة من ترابه الطهور.
ذكرى الإسراء والمعرج
بضع أيام وتحل بالمسلمين في أنحاء المعمورة ذكرى الإسراء والمعراج، الذي أثبت الله خبرها في فاتحة سورة الإسراء، فقال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(الإسراء:1)، ولا يخفى على أحد أن المسلمين يتعبدون إلى الله في صلاتهم وخارجها بتلاوة القرآن، ومنه هذه الآية الكريمة، والتي تُثبت بما لا يدع مجالاً لأي مرتاب، أن الله جل في علاه أسرى بعبده النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، من المسجد الحرام، إلى المسجد الأقصى الذي بارك سبحانه حوله، وهذا الربط بين هذين المسجدين العظيمين لم يحدث عبثاً، وإنما هو ربط عقائدي مقصود، فحادثة الإسراء عقائدية بامتياز في مجرياتها وخروجها عن مقدور الخلق ومألوفهم، ولم تكن حادثة الإسراء لتتم دون غاية عليا، فحاشى لله أن يصدر عنه الفعل، والأمر دون غايات ومقاصد يريدها سبحانه، وكون بعض الناس يغفلون عنها أو لم تبلغها مداركهم، لا ينفي عنها الحكمة والقصد والغاية، وربط المسجدين الحرام والأقصى بعضهما ببعض في ضوء آية الإسراء وحادثته، واضح وجلي، نشأ عنه عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين بالله وبقرآنه ورسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن بعظمة البيت الحرام ينبغي له الإيمان بعظمة المسجد الأقصى المبارك، والحفاظ على بيت الحرام ينبغي أن يوازيه حفاظ على المسجد الأقصى، والتفريط بأي المسجدين يعني التهاون بالآخر -لا قدر الله أن يكون ذلك- ومن أبرز مؤكدات الربط العقائدي بين المسجدين الحرام والأقصى ما يأتي:
الموالاة بينهما في الوجود
عن أبي ذَرٍّ قال: قلت: (يا رَسُولَ اللَّه، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرض أَوَّلُ؟ قال: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قلت: ثُمَّ أَيٌّ؟ قال: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قلت: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قال: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَهُوَ مَسْجِدٌ).(صحيح مسلم)
تشد الرحال إليهما والمسجد النبوي
عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ الْمَسْجِدِ الْحَرَام، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ، صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى)(صحيح البخاري)
قبلتا الصلاة
من وجوه الربط العقائدي بين المسجدين الحرام والأقصى، أن الله أمر المسلمين بالتوجه في صلاتهم أولاً إلى بيت المقدس حاضنة المسجد الأقصى، ثم أمرهم بالتحول في صلاتهم إلى جهة البيت الحرام في مكة المكرمة، وعن هذا يقول عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ...}(البقرة:144)
الاعتداء المتصاعد ضد المسجد الأقصى المبارك
يتعرض مسرى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، لحملة اعتداءات شرسة ومتصاعدة، تستهدف وجوده وقداسته، واختصاصه بالمسلمين دون سواهم، وتشمل هذه الاعتداءات اقتحامات شبه يومية لباحاته، ومحاولات آثمة لإقامة شعائر وطقوس غير إسلامية فيها، حتى إن فظائع الجريمة بلغت بهم أن يقيموا وصلات الرقص، ويشربوا الخمر عند أبوابه ومداخله، ويجروا عقود الزواج في ساحاته، ويدوسوا فرش الصلاة فيه بأحذيتهم، ويعنفوا المصلين العاكفين فيه، دون أن يفرقوا بين كبار السن وصغارهم، ولا بين الرجال والنساء، وكيف يأبهون بشيء؟! وقد وجدوا على باطلهم أعواناً من أبناء الجلدة، وممن لهم أسماء عربية أو إسلامية، غير أن قلوبهم مع المدنسين له، خشية أن تصيبهم دائرة، عليهم دائرة السوء، إن لم يرجعوا إلى دينهم وصوابهم، وينصروا مسجدهم الأقصى الذي بارك الله حوله، وارتوى ترابه بدماء الشهداء، وسجن الأسرى من أحرار هذه الأمة، وحماة مجدها فداء له.
سائلين الله العلي القدير أن يحرر قدسنا ومسرانا وأسرانا، وأن يعجل في ذلك، لننعم بشد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، عملاً بتوجيهات نبينا، وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.