.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

نهاه الله أن يذهب نفسه عليهم حسرات - الحلقة الأولى

==========================================================

يقول عز وجل في محكم التنزيل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}(فاطر:8(
تضمنت الآية القرآنية المثبت نصها أعلاه، نهي من رب العزة، لنبيه الكريم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، عن أن يذهب نفسه عليهم حسرات، جاء ذلك بعد تعريض بالمقصودين في الضمير المتصل بحرف الجر {عليهم} فهم الذين زين لهم سوء عملهم، فرأوه حسناً، إضافة إلى تأكيد الحقيقة العقائدية، الخاصة بحصول الهداية أو الضلال، إذ إن ذلك مرتبط بالمشيئة الربانية، وختمت الآية الكريمة بتأكيد حقيقة عقائدية أخرى، تتعلق بعلم الله سبحانه بما يصنع خلقه، مصداقاً لقوله تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(سبأ: 3)

تزيين سوء العمل
جاء في التسهيل لعلوم التنزيل، أن قوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} توقيف، وجوابه محذوف، تقديره: أفمن زين له سوء عمله، كمن لم يزين له؟ ثم بني على ذلك ما بعده، فالذي زين له سوء عمله هو الذي أضله الله، ومن لم يزين له سوء عمله هو الذي هداه الله.(التسهيل لعلوم التنزيل، 3/155)
هذا المقطع من الآية 8 من سورة فاطر، ذكرت مقارنة ذات صلة بمضمونه في سورة محمد، وذلك في قوله تعالى:{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}(محمد: 14)
يقول الرازي: يعني ليس من عمل سيئاً، كالذي عمل صالحاً، كما قال بعد هذا بآيات: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} (فاطر: 19-20)، وله تعلق بما قبله، وذلك من حيث إنه تعالى لما بين حال المسيء الكافر، والمحسن المؤمن، وما من أحد يعترف بأنه يعمل سيئاً إلا قليل.(التفسير الكبير، 26/6)

الهداية والضلال من عند الله
عند تفسير قوله تعالى: {...فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ...}، يقول الرازي: الناس أشخاصهم متساوية في الحقيقة، والإساءة والإحسان، والسيئة والحسنة، يمتاز بعضها عن بعض، فإذا عرفها البعض دون بعض، لا يكون باستقلال منهم، فلا بد من الاستناد إلى إرادة الله.(التفسير الكبير، 26/6-7)
وفي تفسير أبي السعود، أن قوله تعالى: { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ..الخ} تقرير له، وتحقيق للحق، ببيان أن الكل بمشيئته تعالى، أي فإنه تعالى يضل من يشاء أن يضله، لاستحسانه واستحبابه الضلال، وصرف اختياره إليه، فيرده أسفل سافلين، ويهدي من يشاء أن يهديه، بصرف اختياره إلى الهدى، فيرفعه إلى أعلى عليين، وإما تمهيد لما يعقبه، من نهيه صلى الله عليه وسلم، عن التحسر والتحزن عليهم؛ لعدم إسلامهم، ببيان أنهم ليسوا بأهل لذلك، بل لأن يضرب عنهم صفحاً، ولا يبالي بهم قطعاً، أي أبعد، كون حالهم كما ذكر تتحسر عليهم، فحذف لما دل عليه.(تفسير أبي السعود، 7/144)

النهي عن إذهاب النفس حسرات على الضالين
ينهى الله عز وجل في الآية الكريمة أعلاه رسوله، صلى الله عليه وسلم، عن أن يذهب نفسه حسرات على من زين لهم سوء أعمالهم من الضالين، فقال تعالى: {...فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ...} يرى صاحب التسهيل لعلوم التنزيل، أن في هذا تسلية للنبي، صلى الله عليه وسلم، عن حزنه؛ لعدم إيمانهم؛ لأن ذلك بيد الله.(التسهيل لعلوم التنزيل، 3/155)
يقول الزمخشري: وإذا خذل الله المصممين على الكفر، وخلاهم وشأنهم، فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم، ولا يلقي بالاً إلى ذكرهم، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم، اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم، وذكر الزجاج أنّ المعنى أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب لدلالة {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لدلالة {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} عليه، وحسرات مفعول له، يعني فلا تهلك نفسك للحسرات، وعليهم صلة تذهب، كما تقول: هلك عليه حباً، ومات عليه حزناً، أو هو بيان للمتحسر عليه، ولا يجوز أن يتعلق بحسرات؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته، ويجوز أن يكون حالاً، كأن كلها صارت حسرات؛ لفرط التحسر.(الكشاف 3/609)


عِلْمُ الله بزيغ الضالين وسوء عملهم
ختمت الآية الثامنة من سورة فاطر بتعقيب متصل بمضمونها، فقال تعالى: {.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فالله جل ذكره يبين لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، أن ربه ذو علم بما يصنع هؤلاء، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، وهو محصيه عليهم، ومجازيهم به جزاءهم (تفسير الطبري، 22/118)، وعن هذا التعقيب يقول الزمخشري: وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.(الكشاف 3/610)
آملين متابعة الحديث عن هذا النهي، وربطه بحال المسلمين اليوم في ضوء الخطاب الرباني الكريم الموجه لخير الأنام، نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أجمعين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
8 صفر 1442هـ

تاريخ النشر 2020-09-25
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس