يقول عز وجل في محكم التنزيل:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}(فاطر:8)
وقفت الحلقة السابقة عند أربعة محاور، تضمنتها الآية الكريمة الثامنة من سورة فاطر، تلكم هي: تزيين سوء العمل لبعض الناس الذين رأوه حسناً، والهداية والضلال من عند الله يوفق إلى كل منهما، من هو أهل لذلك، والنهي عن إذهاب النفس حسرات على الضالين، فلا طائل يرجى من ذلك، وأن الله عليم بزيغ الضالين وسوء عملهم، وفي ظل ما يعيشه الناس في هذا العالم، وبخاصة المسلمين منه، فمن المفيد ربط مضامين هذه الآية الكريمة بأحوال الناس بعامة، والمسلمين بخاصة، عند التلبس برؤية الإساءة إحساناً، في ظل تقلب المفاهيم، واختلاط المعايير، واضطراب القيم.
عمل قوم لوط يراه بعض الناس حسناً
في ثنايا قصة قوم لوط، يجد متابعها كيف أن فعلهم المقيت، وجده الساعون إليه والمتشغفون إليه حسناً، في مقابل نظرتهم لطهر لوط ومن آمنوا معه جريمة، استنكروها، وحاربوا لوطاً لأجلها، ويخبر الله عن هذا الخلل في المعايير فيقول عز وجل: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(الأعراف:82)، وتكرر مثل هذا الإخبار عنهم في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(النمل: 56)
وعلى غرار هذا الانحراف ينهج المتخبطون في وحل الضلال، فيدافعون عن فعل اللواط وأشباهه تحت ذريعة احترام الحريات الشخصية، والميول الفردية، بغض النظر عن القيم والأخلاق والأحكام الشرعية السماوية، ولا يقل عن هذا الصنف من المنحرفين أولئك الذين يزينون قبح المواقف ونذالتها وخستها، ويدافعون عنها بشراسة المحاربين، ولو رجعوا إلى قليل من العقل والتدبر والحكمة لوجدوا أن التفريط بالقدس والمسجد الأقصى المبارك، جريمة نكراء، فهو المسرى، والقبلة الأولى، وأحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله بعد المسجد الحرام، فكيف يستساغ قلب ظهر المجن له، وإغماض العيون عن استباحته، وتهديد وجوده، وسفك دماء الأبرياء من رواده، والمرابطين في رحابه وأكنافه؟؟!!
فالذي يبدو واضحاً أن الذين ضلوا الدرب، زين لهم الشيطان سوء عملهم، فرأوه حسناً، مما يستدعي الأخذ بالتوجيه الرباني حيالهم، وذلك بأن لا تذهب النفوس عليهم حسرات، فهم قد ضلوا السبيل، والله عليم بما صنعوا ويصنعون، وقد وصف الله أمثالهم بقوله عز وجل: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(الكهف:104)
وفي معرض التدبر في دلالات هذه الآية الكريمة وأخواتها، يقول صاحب أضواء البيان: هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى؛ لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر، لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار؛ لجاجاً في الباطل وعناداً.(أضواء البيان، 2/13)
أخسرون أعمالاً ويحسبون أنهم مهتدون
تعرض القرآن إلى كشف زيغ الضالين عن دربه، ممن ظنوا أنهم بضلالهم مهتدون، فبين سبحانه أنهم أولياء الشيطان، وحق عليهم الضلالة، فقال جل شأنه:{فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}(الأعراف:30)
ولأن ديدن المنحرفين عن الصواب الزيغ، واستمراء الضلال، فإنهم حتى يوم القيامة يحاولون ممارسة سلوكهم المنحرف، فيحلفون لله كما كانوا يحلفون لعباده في الدنيا، ظناً منهم أنهم على حق، وأن لديهم حجة ومنطقاً ومبررات، لكن الله وصفهم بوصف الكذب، وهو من أحط الصفات وأقبحها، فقال تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}(المجادلة:18)
وقد أنبأ الله عن الأخسرين أعمالاً، فقال عز وجل:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(الكهف: 103-104)
فليست العبرة إذن بالحذلقات والتشدقات والتزيينات للخطابات والمواقف والشخوص، والتي يتم خلال بعضها استخدام أصباغ تزيينية مستعارة للأعمال والمواقف والأقوال على سوئها وقباحتها، وزيغ أهلها عن الهدى، وإنما العبرة كل العبرة لموافقة شرع الله، والعمل بمقتضاه، دون اتباع لهوى، أو التعصب لقبيلة، أو إيثار محبة الآباء والأمهات والأبناء والإخوة والتجارة والمساكن، على محبة الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله، حيث حذر الله من هذا الزيغ المبين، فقال في محكم التنزيل: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(التوبة:24)
فما عند الله خير وأبقى، والباقيات الصالحات خير، والحق خير بالاتّباع والحرص، والذود عن حياضه، وشتان بين الذي يلقى ربه بما قدم، وأسلف في صف الحق، وبين الذي باع دينه بدنياه، أو بدنيا غيره.
15 صفر 1442هـ