.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

وحلمه إذا استغضب ورفقه ولطفه - الحلقة الثانية

==========================================================

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، ثُمَّ قَالَ: أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً)(صحيح البخاري، كتاب الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون)
وقفت الحلقة السابقة عند حادثتين من أحداث السيرة النبوية، برزت فيهما معالم حلمه، صلى الله عليه وسلم، ورفقه ولطفه وحنكته لما تعرض لتجاوزات بعض الناس تجاهه، انتقد في أحدهما رجل قسمته، قائلاً: "وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ القِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ"، ولما وصله، صلى الله عليه وسلم، خبر هذا القول رد بقول بليغ، يستند إلى مبدأ عقائدي، وسيرة أخلاقية، واستلهام من سيرة أخيه موسى، عليه السلام، فقال: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟؟!! رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»(صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه)
وفي الحادثة الثانية رد بالضحك على جذبة مُطالبٍ بعطاء من مال الله، وأُشير في الحلقة إلى أهمية العدل، فالله يحبه، وأمر به خلقه في أحوالهم كلها، حتى عند إصدار أحكام تخص خصوماً، ونهى سبحانه عن التذرع بالكراهية لظلم المكروهين، والأمر المباين للعدل هو الظلم، الذي هو ظلمات يوم القيامة، والله حرمه على نفسه وعلى خلقه، حسب ما جاء في الحديث القدسي، وتحمل النبي، صلى الله عليه وسلم، للأذى ينطلق من علمه بجَزِيلِ ثَوَابِ الصَّابِرِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْجُرُهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالصَّابِرُ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُنْفِقِ؛ حتى إنه سبحانه يمهل العاصيين والكافرين ويرزقهم، وقد أفصح النبي، صلى الله عليه وسلم، عن هدفه من إعطاء أناس بعض العطايا ومنع آخرين، لكن بعض الأشخاص لم يدركوا مغزى إجراءاته بالخصوص، فانبروا للاعتراض بطريقة فجة، حتى إن الأنصار أنفسهم أو بعضاً منهم احتجوا على منعهم من بعض العطايا، التي أُعطي منها آخرون، فأوضح لهم صلى الله عليه وسلم، أهدافه، بالاقتران مع الإشادة بهم، فما كان منهم بعد أن جلي لهم الأمر إلا أن عادوا إلى رشدهم، ورضوا بالله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ولو حجب عنهم بعض المتاع، ومُنعوا بعض العطايا، وخلصت الحلقة إلى ذكر بعض ما استنبطه ابن حجر العسقلاني من حديث عبد الله بن مسعود الذي تصدرها، ومن ذلك: جَوَازُ إِخْبَارِ الْإِمَامِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ بِمَا يُقَالُ فِيهِمْ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ، لِيُحَذِّرُوا الْقَائِلَ، وبَيَانُ مَا يُبَاحُ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وأَنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ قَدْ يُغْضِبُهُمْ مَا يُقَالُ فِيهِمْ مِمَّا لَيْسَ فِيهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإنهم يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ، كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اقْتِدَاءً بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَال
تماشياً مع حلمه، صلى الله عليه وسلم، ولطفه ورفقه مع من يستغضبه، يأتي حدث المتقاضي المُخبَر عنه في نص حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، ويفيد الخبر أن الرجل أغلظ في تقاضيه، فرد النبي، صلى الله عليه وسلم، بما ينم عن حلمه وأناته ورفقه ولطفه، فقال لأصحابه الذين هموا بردع المتقاضي، قائلاً: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا»(صحيح البخاري، كتاب الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون)
يبين ابن حجر العسقلاني أن معنى (يَتَقَاضَاهُ) أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ قَضَاءَ الدّين، وقَوْلُهُ: (فَأَغْلَظَ لَهُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِغْلَاظُ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ قَدْرٍ زَائِدٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ: «فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ» أَيْ أَرَادَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُؤْذُوهُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، على ما بدر منه، لَكِنْ لَمْ يَفْعَلُوا أَدَبًا مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقَوْلُهُ: «فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا» أَيْ له صَوْلَةَ في الطَّلَبِ، وَقُوَّةَ الْحُجَّةِ، لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ الْمَشْرُوعِ.(فتح الباري لابن حجر:5/56-57)
ويبين الإمام العيني أن صولة الطّلب وَقُوَّة الْحجَّة، تكون مع من يمطل أَو يسيء الْمُعَامَلَة، وَأما من أنصف من نَفسه، فبذل مَا عِنْده، وَاعْتذر عَمَّا لَيْسَ عِنْده، فَلَا تجوز الاستطالة عَلَيْهِ بِحَال.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:12/134+136)
أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ
الرسول، صلى الله عليه وسلم، خلال رده على المتقاضي الذي أغلظ في تقاضيه حجب أصحابه عن الهم به، قائلاً لهم: (دَعوه) أَي: اتركوه وَلَا تتعرضوا لَهُ، وَيبين الإمام العيني أن هَذَا من غَايَة حلمه وَحسن خلقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري: 12/136)
ولم يكتفِ عليه الصلاة والسلام، بلطفه هذا المتمثل بردع أصحابه عن البطش بالمتقاضي المغلِظ، وبيانه لهم أن لصاحب الحق مقالاً، بل توسع في اللطف تجاهه من خلال الطلب من أصحابه بأن يعطوه سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ، ويبين العيني أن السنّ هنا هُوَ أحد أَسْنَان الْإِبِل، وَأَسْنَانهَا مَعْرُوفَة فِي كتب اللُّغَة إِلَى عشر سِنِين، فتسمى الحوار، ثمَّ الفصيل إِذا أفصل، ثمَّ يكون بنت مَخَاض لسنة إِلَى تَمام سنتَيْن، فَإِذا دخلت فِي الثَّالِثَة فَهِيَ ابْنة لبون، فَإِذا تمت لَهُ ثَلَاث سِنِين فَهُوَ حق وحقة إِلَى تَمام أَربع سِنِين؛ لِأَنَّهَا اسْتحقَّت أَن تركب وَتحمل عَلَيْهَا الْفَحْل فَهِيَ تلقح، وَلَا يلقح الذّكر حَتَّى يثنى، وَيُقَال للحقة طروقة الْفَحْل؛ لِأَن الْفَحْل يطرقها إِلَى تَمام أَربع سِنِين، فَإِذا طعنت فِي الْخَامِسَة فَهِيَ جَذَعَة حَتَّى يتم لَهَا خمس سِنِين، فَإِذا دخلت فِي السَّادِسَة، وَألقى ثنيته لَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ ثني حَتَّى تستكمل سِتاً، فَإِذا طعن فِي السَّابِعَة سمي الذّكر رباعي، وَالْأُنْثَى ربَاعِية، إِلَى تَمام السَّابِعَة، فَإِذا دخل فِي الثَّامِنَة ألْقى السن السديس الَّذِي بعد الرّبَاعِيّة، فَهُوَ سديس وَسدس، إِلَى تَمام الثَّامِنَة، فَإِذا دخل فِي التسع طلع نابه فَهُوَ باذل، أَي: بذل نابه، يَعْنِي طلع حَتَّى يدْخل فِي الْعَاشِرَة، فَهُوَ حِينَئِذٍ مخلف، ثمَّ لَيْسَ لَهُ اسْم، وَلَكِن يُقَال بازل عَام، وبازل عَاميْنِ، ومخلف عَام، ومخلف عَاميْنِ، ومخلف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَى خمس سِنِين، والخلفة الْحَامِل.
وقَوْلهم: (إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ) تَقْدِيره: لَا نجد سناً إلاَّ سناً أمثل، أَي: أفضل من سنه.
وأمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِإِعْطَاء السن وكَالَة فِي قَضَاء دينه.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:9 /7، و12/134-136، بتصرف)
فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً
الرسول، صلى الله عليه وسلم، واصل اللطف والحلم والأناة والرفق بالمتقاضي، ولم يقف عند ما سبق من تصرفات وتوجيهات، بل انتهى به الأمر إلى الطلب من أصحابه الحاضرين، رضي الله عنهم، بأن يعطوا المتقاضي سناً من الإبل كالذي أُخذ منه، ولما لم يجدوا سوى أفضل منه، طلب منهم أن يعطوه أفضل منه، معللاً توجيهه هذا بقاعدة أخلاقية أرساها بقوله: «فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً».
ومعنى «أحسنكم قَضَاء»: أَي وَفَاء.(فتح الباري لابن حجر:1/174)
يبين الشوكاني أن من حسن القضاء أن يدفع المدينون أكثر مما عليهم، وأن لا يمطلوا رب الدين، ويوفوا به مع اليسار، ومفهومه أن الذي يمطل ليس من الخيار، وهو ظاهر؛ لأن المطل للغني ظلم محرم، بل هو كبيرة إن تكرر، بل قال بعضهم وإن لم يتكرر.(فيض القدير:2/449)
وفي موضع آخر من فيض القدير يبين الشوكاني بأن رد المدين للدائن أكثر مما عليه يكون من حسن القضاء حين يتم بغير شرط، ولا يمطل رب الدين، ولا يسوف به مع القدرة، ويقضيه جملة لا مفرقاً.
وقال الكرماني: «خياركم» يحتمل كونه مفرداً بمعنى المختار، وكونه جمعاً، فإن قيل: كيف يكون «أحسن» خبراً له؛ لأنه مفرد؟ والجواب: أفعل التفضيل المقصود به الزيادة جائز فيه الإفراد والمطابقة لمن هو له، وهذا قاله حين استقرض ورد خيراً مما أَخذ، وذلك من مكارم أخلاقه، وليس هو من قرض جر نفعاً للمقرض؛ لأن المنهي عنه ما شرط في عقد القرض، كشرط رد صحيح عن مكسر، أو رده بزيادة في الكم أو الوصف، فلو فعل ذلك بلا شرط كما هنا جاز، بل ندب عند الشافعي، وقال المالكية: الزيادة في العد منهية، والخبر يرده، هذا كله إن اقترض لنفسه؛ فإن اقترض لجهة وقف، أو محجور لم يجز له رد زائدة، والخير والخيار يرجع إلى النفع، فخيار الناس أنفع الناس للناس، فإن قيل: هذا خير من هذا؛ فمعناه أنفع لنفسه أو لغيره، وأشرف المنفعة ما تعلق بالخلق؛ لأن الحسنة المتعدية أفضل من القاصرة، وحسن المعاملة في الاقتضاء والقضاء يدل على فضل فاعل ذلك في نفسه، وحسن خلقه، بما ظهر من قطع علاقة قلبه بالمال، الذي هو معنى الدنيا.(فيض القدير:23/466)
ويتماشى مع حسن القضاء مضمون قوله صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى»(صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع)
وفي حديث المتقاضي الذي أغلظ القول في طلب الاقتضاء جَوَازُ وَفَاءِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمِثْلِ الْمُقْتَرَضِ إِذَا لَمْ تَقَعْ شَرْطِيَّةُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، فَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ اتِّفَاقًاً، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الزِّيَادَةِ، فإِنْ كَانَتْ بِالْعَدَدِ مُنِعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْوَصْفِ جَازَتْ.(تحفة الأحوذي:4/456)
فهذه وقفة ثانية عند صور أخرى من حلمه، صلى الله عليه وسلم، ولطفه ورفقه استوحيت من ردوده على استغضاب بعض الناس له، آملين أن يوفق الله للوقوف عند مزيد من شواهد هذه القيم والأخلاق التي تحلى بها نبينا محمد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
11 صفر 1446هـ

تاريخ النشر 2024-08-16
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس