يقول الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(الفتح: 29)
وقفت الحلقة السابقة عند الصفة السابعة من صفات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، حسب المتضمن في نص الآية القرآنية من سورة الفتح، المثبت أعلاه، حيث تم التأمل بمَثَلهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَمَثَلهُمْ فِي الْإِنجِيلِ، وجاء في التفسير أن هذا من نعوتهم الجليلة، ووصفهم عجيب الشأن، الجاري في الغرابة مجرى الأمثال، والذي فصلت التفاسير معانيه.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
الآية الكريمة أعلاه تضمنت صفات وأحوال لمحمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، سبق أن أفرد لسبع منها حلقات سبع من هذه الزاوية الصحفية الدينية، وها هو مسك الختام ثامنها يشار إليه في مقطعها التعقيبي الأخير، حيث قطع الله جل في علاه وعداً للذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً، ومما يعنيه هذا التعقيب أن صفات المدح السابقة إنما ينال أصحابها المغفرة والأجر العظيم لتقيدهم بالإيمان، وأداء الأعمال الصالحة، وليست المسألة امتيازات فخرية تمنح للمنتسب اسماً لهذه الشريحة من خلق الله، وهذا الشرط للخيرية والفوز تكرر اشتراط مشابهه لنيل أمة الإسلام مرتبة الخيرية، فقال عز وجل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...} (آل عمران:110)
جاء في التفسير الكبير، أن قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي وعد ليغيظ بهم الكفار، يقال: رغماً لأنفك أنعم عليه، وقوله تعالى: {مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}لبيان الجنس لا للتبعيض، ويحتمل أن يقال هو للتبعيض، ومعناه ليغيظ الكفار، والذين آمنوا من الكفار لهم الأجر العظيم، وهاهنا لطيفة، وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ} وقال لهم أجر، ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل؛ وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله، ولم يجعل له أجراً يعتد به، فقال: لا أبتغي إلا فضلك، فإن عملي نزر لا يكون له أجر، والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل، وسماه أجراً إشارة إلى قبول عمله، ووقوعه الموقع، وعدم كونه عند الله نزراً لا يستحق عليه المؤمن أجراً، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}لبيان ترتب المغفرة على الإيمان، فإن كل مؤمن يغفر له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (النساء: 48) والأجر العظيم على العمل الصالح، والله أعلم. (التفسير الكبير، 28/94)
ويلخص السعدي مضمون هذا الوعد الرباني الكريم، فيقول: فالصحابة، رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة. (تفسير السعدي، 1/796)
صفات جليلة أجملتها آية قرآنية واحدة
المتدبر في الآية القرآنية التاسعة والعشرين والأخيرة من سورة الفتح، والمثبت نصها أعلاه، يلحظ أمرين عظيمين، أحدهما يخص القرآن الكريم، وثانيهما يخص المؤمنين به، فالقرآن الكريم المتميز بالفصاحة والبلاغة، وسحر البيان، أجمل في آية محدودة الألفاظ والجمل، من المعاني التي يطول شرحها، وهذا من أبرز وجوه البلاغة والفصاحة، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، تميز بأنه أوتي جوامع الكلم، حيث يقول: (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أنا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرض، فَوُضِعَتْ في يَدِي. قال أبو عَبْد اللَّهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ التي كانت تُكْتَبُ في الْكُتُبِ قَبْلَهُ في الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ، أو نحو ذلك).(صحيح البخاري)
أما الأمر الثاني؛ فيتعلق بصاحب هذه الرسالة، صلى الله عليه وسلم، الذي ألقى الله عليه بها قولاً ثقيلاً، وبالذين صدقوه واتبعوه، فقد نالوا رفيع المنازل، وأرقى الدرجات، لتأهلهم بصفات عظيمة الشأن، ألمحت إلى بعضها مضامين هذه الآية الكريمة.
إجمال لمضامين خاتمة سورة الفتح
يقول ابن تيمية، خلال وقوفه عند هذه الآية الكريمة، التي ختمت بها سورة الفتح: ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات، وهو الشدة على الكفار، والرحمة بينهم، والركوع والسجود، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، والسيما في وجوههم من أثر السجود، وأنهم يبتدؤون من ضعف، إلى كمال القوة والاعتدال، كالزرع، والوعد بالمغفرة، والأجر العظيم، ليس على مجرد هذه الصفات، بل على الإيمان والعمل الصالح، فذكر ما به يستحقون الوعد، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة، ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة، والأجر العظيم، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء، بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح، فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب، كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم.(دقائق التفسير: 2/112)
وبهذا الإجمال نختم التأمل في صفات المسلمين وأحوالهم، حسب الوارد في الآية القرآنية أعلاه، والتي سبق الوقوف عند بعض تفاصيلها، عنهم وعن نبيهم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
16 محرم 1442هـ