يقول الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ...} (الفتح:29)
وقفت الحلقة السابقة عند الصفة الثالثة من صفات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، حسب المتضمن في الآية القرآنية من سورة الفتح المثبت جزء منها أعلاه، حيث تم التأمل بصفة: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} فمحمد، عليه الصلاة والسلام، والذين معه، قلوبهم في الأصل رقيقة تجاه بعضهم بعضاً، بخلاف ما يجده الناظر في واقعهم اليوم، من اضطراب في بوصلة الرحمة بينهم.
رُكَّعاً سُجَّداً
من صفات محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، تميزهم بأداء الركوع والسجود، فيبدون للناظرين إليهم ركعاً سجداً، أي ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم.(المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 5/141)، فهم يواظبون على أداء الصلاة، وهي المشتملة على الركوع والسجود، وتجدر الإشارة إلى أنه لم يرد لفظ {ركعاً} بهذه الصيغة سوى مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في الآية 29 من سورة الفتح، بينما لفظ {سجداً} ورد في هذه الآية الكريمة، وفي عشرة مواضع أخرى غيرها، منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} (الفرقان:64)
وورد ذكر السجود مقترناً بالركوع في أمر مريم، عليها السلام بهما، المتضمن في قوله عز وجل: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}(آل عمران:43)
فحريٌّ بالمسلمين أن يحرصوا على التقرب إلى ربهم بالصلاة التي فرضها عليهم خمس مرات في اليوم الواحد، إضافة إلى أداء سننها ونوافلها، أناء الليل وأطراف النهار، ليكونوا من العابدين لله جل في علاه، دون سواه.
دعاء الساجدين والراكعين وتسبيحهم
للركوع وللسجود أهمية بالغة في جانب تقرب العابدين إلى الله تعالى، ففيهما يسبحونه ويدعونه، يرجون رحمته ورضوانه، فعن عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قالت: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهم رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهم اغْفِرْ لي)(صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء في الركوع)
وعنها رضي الله عنها: قالت: (افْتَقَدْتُ النبي، صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إلى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فإذا هو رَاكِعٌ أو سَاجِدٌ، يقول: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إلا أنت، فقلت: بِأَبِي أنت وَأُمِّي، إني لَفِي شَأْنٍ، وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ)(صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود)
والعبد خلال سجوده لله يكون أقرب ما يكون من ربه سبحانه، كما جاء في الحديث الصحيح، عن أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (أَقْرَبُ ما يَكُونُ الْعَبْدُ من رَبِّهِ وهو سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ)(صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود)
لهذا السبب وجه الرسول، صلى الله عليه وسلم، العابدين إلى الإكثار من دعاء الله وهم ساجدون، فهي فرصة ذهبية تتاح لهم ليستغفروه، ويطلبوا حاجاتهم منه جل في علاه، ومن أدعية السجود المأثورة، ما جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كان يقول في سُجُودِهِ: (اللهم اغْفِرْ لي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ)(صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود)
الطمأنينة في الركوع والسجود
بعض المصلين يركع بعجلة يطلق على حالها أحياناً وصف (نقر الديك) ويحدث ما يشبه ذلك من بعضهم خلال سجوده، حتى إن الناظر إلى من يفعل ذلك يخيل إليه أنه لم يسبح في ركوعه وسجوده، بل قد يرفع من الركوع قبل أن تصل يداه ركبتيه، وقد يرفع من سجوده قبل أن تصل جبهته موضع سجوده، وهذا حال المسيء في صلاته، الذي أُمر بإعادة صلاته ليحقق فيها الطمأنينة، فعن أبي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، دخل الْمَسْجِد، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ على النبي، صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ وقال: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لم تُصَلِّ، فَرَجَعَ يُصَلِّي كما صلى، ثُمَّ جاء فَسَلَّمَ على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لم تُصَلِّ، ثَلَاثًا، فقال: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ما أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فقال: إذا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ من الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتى تعدل قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذلك في صَلَاتِكَ كُلِّهَا)(صحيح البخاري، كتاب الأذان، أبواب الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها)
فينبغي للمسلم أن يثمن قدر الركوع والسجود في علاقته مع ربه سبحانه، وأن يؤديهما بتؤدة وطمأنينة، ليتذوق حلاوة التواصل مع الله فيهما، بالذكر والتسبيح والدعاء، حامداً له سبحانه أن أتاح له هذه الفرصة الذهبية، المتكررة مرات ومرات في اليوم والليلة، وكثير من الخلق يرجون أن تتاح لهم فرصة أن يلقوا بعض البشر من جنسهم مرة في العمر، ويعيشون ويموتون، دون أن تتحقق أمنيتهم، ولله المثل الأعلى دائماً وأبداً.
راجين الله سبحانه أن ييسر متابعة التأمل في صفات المسلمين، حسب الوصف القرآني الوارد في الآية أعلاه، والذي منه الثناء الرباني عليهم كونهم ركعاً سجداً، يواظبون على ذلك، وأنهم رحماء بينهم، إضافة إلى كونهم أشداء على الكفار، هم ونبيهم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
17 ذو الحجة 1441هـ