.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

وصِفات قرآنية لأتباعه - الحلقة السادسة

==========================================================

يقول الله تعالى:{محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً منَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم منْ أَثَرِ السُّجُودِ...}(الفتح:29)
وقفت الحلقة السابقة عند الصفة الخامسة من صفات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، حسب المتضمن في الآية القرآنية من سورة الفتح المثبت جزء منها أعلاه، حيث تم التأمل بصفة: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}
ويكون ابتغاء محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه للفضل والرضوان في عبادتهم، وأعمالهم، وركوعهم، وسجودهم، ومواقفهم كلها، فمقاصدهم طاهرة نقية، تخلو من شوائب الشرك والنفعية والرياء، يرجون نيل ثواب الله ورضوانه، ولا يريدون من الناس جزاءً ولا شكوراً، وأثنى الله بشكل خاص على ابتغاء المهاجرين فضلاً من الله ورضواناً، ومن الآثار التي تترتب على ابتغاء الفضل من الله والرضوان، نهي الله عن التعرض بالأذى لقاصدي البيت الحرام، وقد نقل عن أهل العلم: إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله، وإن كانوا لا ينالون ذلك، فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة.
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ
سبق أن تعرضت الحلقة الرابعة لصفة الركع السجود، التي حافظ على التحلي بها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، حسب ما ورد في الآية الكريمة أعلاه، وفي الآية الكريمة نفسها ثناء عليهم تابع لسجودهم أن علامات السجود تظهر على وجوههم، جاء في التسهيل لعلوم التنزيل: أن السيما العلامة، وفيه ستة أقوال: أظهرها والله أعلم، أنه الأثر الذي يحدث في جبهة المصلي من كثرة السجود.(التسهيل لعلوم التنزيل، 4/56)
وجاء في تفسير ابن كثير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: سيماهم في وجوههم يعني السمت الحسن، وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع، وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم، وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس، وقال أمير المؤمنين عثمان، رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، والغرض أن الشيء الكامن في النفس، يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى، أصلح الله عز وجل ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: من أصلح سريرته، أصلح الله تعالى علانيته.(تفسير ابن كثير، 4/205)

شواهد نصية على تعبير ظواهر الجسد عن مكنوناته
وجود علامات في وجوه الساجدين من أثره، ظاهرة لها معاضدات أخرى في آيات قرآنية، أشارت إلى علامات محمودة، وأخرى مذمومة، تظهر على أجزاء من جسد الإنسان، معظمها متعلق بما سيكون يوم القيامة، وبعضها يتعلق بأحوال الخلق في الدنيا أيضاً، فالله تعالى يخبر أنه في يوم القيامة تظهر علامة السواد أو البياض على وجوه الخلق، بحسب ما أسلفوا في دنياهم، فقال عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(آل عمران:106-107)
ويقول عز وجل: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى للْمُتَكَبِّرِينَ}(الزمر: 60)
ولا يقتصر التعبير عن أحوال الخلق يوم القيامة على لون الوجوه، وإنما يعبر انفسارها وعبوسها أيضاً عن أحوالها، مصداقاً لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}(عبس:38-42)
وأشار القرآن الكريم كذلك إلى دلالات تظهر على العيون، توحي بالمضمر من أفعال صاحبها، فقال جل شأنه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(غافر: 19)
يرى الزمخشري، أن الخائنة صفة للنظرة، أو مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين.(الكشاف، 4/163)
وفي تفسير ابن كثير، عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: يعلم الله تعالى من العين في نظرها هل تريد الخيانة أم لا، وكذا قال مجاهد وقتادة.(تفسير ابن كثير، 4/76)
ومن العلامات الظاهرة الدالة على مكنونات النفوس، التعبير اللساني، حيث يقول تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}(محمد: 30)

فهذه نماذج لحالات تعبير ظاهر المرء عن مكنوناته وأفعاله المضمرة، وردت الإشارة إليها في نصوص شرعية، وتم الاستدلال بها في سياق الحديث عن تعبير الوجوه، بدلالات خاصة على سجود الساجدين.
راجين الله سبحانه أن ييسر متابعة التأمل في صفات المسلمين وأحوالهم، حسب الوارد في الآية القرآنية أعلاه، والذي منه الثناء الرباني عليهم كونهم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً، إضافة إلى كونهم ركعاً سجداً، يواظبون على ذلك، وأنهم رحماء بينهم، أشداء على الكفار، هم ونبيهم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
2 محرم 1442هـ

تاريخ النشر 2020-08-21
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس