عن أَبي سَعِيدٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَنِ الهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، إِنَّ الهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا)(صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب فضل المنيحة)
المعنى الإجمالي لهذا الحديث الشريف
يذكر العيني أن الْأَعرَابِي نِسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب، والأعراب ساكنو الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار، وَلَا يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة، وقَوْله: "وَيحك" قَالَ الدَّاودِيّ: "وَيْح" كلمة تقال عِنْد الزّجر وَالْمَوْعِظَة وَالْكَرَاهَة لفعل الْمَقُول لَهُ أَو قَوْله.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 9 /14)
وجاء في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري: أن الأعرابي الذي جاء إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يسأله عن الهجرة؛ أي أن يبايعه على الإقامة بالمدينة، ولم يكن من أهل مكة الذين وجبت عليهم الهجرة قبل الفتح، فقال له عليه الصلاة والسلام: "ويحك" وهي كلمة ترحم وتوجع لمن وقع في هلكة لا يستحقها.
وقوله: "إن الهجرة شأنها" أي القيام بحقها "شديد" لا يستطيع القيام به إلا القليل.
"فهل لك من إبل؟ قال: نعم" قال عليه الصلاة والسلام، له "فتعطي صدقته"؟ المفروضة، قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: "فهل تمنح" بفتح النون وكسرها "منها شيئًا؟" قال: نعم، وفي هذا إثبات فضيلة المنيحة، قال عليه الصلاة والسلام: "فتحلبها يوم وردها؟ بكسر الواو وفتحها، وفي رواية (ورودها) أي يوم نوبة شربها؛ لأن الحلب يومئذ أوفق للناقة، وأرفق للمحتاجين، قال: نعم.
قال عليه الصلاة والسلام له: "فاعمل من وراء البحار" أي من وراء القرى والمدن، "فإن الله لن يترك من عملك شيئًا" بفتح الياء وكسر التاء، أي لن يُنْقِصَكَ من ثواب أعمالك شيئاً.(شرح القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 4 /369، بتصرف)
وفي موضع آخر منه توضيح لبعض عبارات هذا الحديث وألفاظه، فالمقصود بسؤال النبي، صلى الله عليه وسلم، للسائل: "فهل تمنح منها؟" أي تعطيها لغيرك يحلب منها، قال: نعم. قال: "فتحلبها؟" للمساكين، وقوله، صى الله عليه وسلم : "فاعمل من وراء البحار" أي من وراء القرى والمدن، فلا تبال أن تقيم في بلدك، ولو كنت في أقصى بلاد الإسلام "فإن الله لن يترك" أي لم ينقصك من ثواب عملك شيئًا، إذا أدّيت الحقوق التي عليك.(شرح القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 6/228، بتصرف)
شأن الهجرة شديد
يذكر العيني أن قَوْله: "أَن شَأْنهَا شَدِيد" أَي أَن شَأْن الْهِجْرَة، وَذَلِكَ لَا يسْأَله أَن يبايعه على أَن يُقيم بِالْمَدِينَةِ، وَلما علم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، أَنه لَا يُهَاجر قَالَ لَهُ ذَلِك، وَكَانَ ذَلِك قبل الْفَتْح وقبل انْقِضَاء الْهِجْرَة.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 17/59، بتصرف)
ويقول ابن حجر العسقلاني: الهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْأَعْيَانِ قَبْلَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَكَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، يُحَذرهُمْ شِدَّةِ الْهِجْرَةِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ.(فتح الباري لابن حجر، 10 /555)
اعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحَارِ
أتبع النبي، صلى الله عليه وسلم، رده على السائل عن الهجرة، بعد بيانه أن شأنها شديد، بسؤاله له: «فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟ المفروضة، أَي زَكَاتهَا، وَإِنَّمَا خص بِصَدقَة الْإِبِل مَعَ أَن أَدَاء جَمِيع الْوَاجِبَات وَاجِب؛ لِأَنَّهُ كَانَ من أهل الْإِبِل، وَالْبَاقِي منقاس عَلَيْهِ، ولما كان جواب الأعرابي بالإيجاب، قال له صلى الله عليه وسلم: "فاعمل من وَرَاء البحار" مَعْنَاهُ إِذا كنت تُؤدِّي فرض الله عَلَيْك فِي نَفسك وَمَالك، فَلَا تبال أَن تقيم فِي بَيْتك، وَإِن كَانَت دَارك من وَرَاء الْبحار، وَلَا تهَاجر؛ فَإِن الْهِجْرَة من جَزِيرَة الْعَرَب، وَمن كَانَت دَاره من وَرَاء الْبحار لن يصل إِلَيْهَا، وَقيل المُرَاد من الْبحار الْبِلَاد.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 9 /14)
ويبين الإمام العيني أن قَوْله، صلى الله عليه وسلم: "يَوْم وُرُودهَا" أَي: على المَاء، وَإِنَّمَا قيد الْحَلب بِيَوْم الشّرْب؛ لِأَنَّهُ أرْفق لِلْإِبِلِ وَالْمَسَاكِين.
وقَوْله: "فَلَنْ يَتِرَك" من الْوتر وَهُوَ النَّقْص، أَي: لن ينْقصك إِذا أدّيت الْحُقُوق، فَلَا عَلَيْك فِي إقامتك فِي وطنك.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 17 /59)
ويبين ابن حجر العسقلاني أن قوله، صلى الله عليه وسلم، خلال إجابته للسائل عن الهجرة: "فاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ" مُبَالَغَةٌ فِي إِعْلَامِهِ بِأَنَّ عَمَلَهُ لَا يَضِيعُ فِي أَيْ مَوْضِعٍ كَانَ.(فتح الباري لابن حجر، 7 /259)
وَقَوْلُهُ: "مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ" أَيْ مِنْ وَرَاءِ الْقرى، والقرية يُقَالُ لَهَا الْبَحْرَةُ لِاتِّسَاعِهَا، وَقَوْلُهُ: "لن يَتْرَكَ" أَي لن ينْقصك.(فتح الباري لابن حجر، 10 /555)
لن يتركم أَعْمَالِكُمْ ولا يَلِتْكُم مِّنْها
طمأن الله عباده إلى أنهم سيجزون على ما قدموا من أعمال البر والخير والإحسان وطاعة الله خير الجزاء، دون أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن الآيات القرآنية الكريمة التي نوهت إلى هذه الحقيقة الإيمانية، الآيتان 35 من سورة محمد، و14 من الحجرات، فيقول تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}(محمد:35)
ولم يرد لفظ {يتركم} في القرآن الكريم إلا في الآية 35 من سورة محمد، ومعنى {يتركم}: اختلف فيه: فقَالَ بَعْضُهُمْ أي: لن يجعل اللَّه للكافرين عليكم مظلمة ولا تبعة، وهو يحتمل في الدنيا والآخرة؛ كقوله تعالى: {...وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}(النساء:141)
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي: لن ينقصكم أعمالكم، وكذا قال أبو عَوْسَجَةَ؛ يقال: وتره: أي: نقصه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لن يظلمكم أعمالكم؛ يقال: وترني حقي، أي: بخسنيه، كذلك قال القُتَبِيّ، ولكن كلاهما واحد في المعنى، أي: لا ينقص من أعمالهم شيئاً، ولا يظلمون فيها، ولا يبخسون، واللَّه أعلم.(تفسير الماتريدي، تأويلات أهل السنة، 9 /286)
ولفظ {يلتكم} لم يرد إلا في الآية 14 من سورة الحجرات، فيقول عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(الحجرات:14)
وفي معنى {يلتكم} وجهان: أحدهما: لا يمنعكم من ثواب عملكم شيئاً، الثاني: ولا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً، قال الحطيئة:
(أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً)
أي لا نقصاً ولا كذباً.
وفيه قراءتان: {يَلِتْكم} و{يألتكم} وفيها وجهان: أحدها: [أنهما] لغتان معناهما واحد. الثاني: يألتكم أكثر وأبلغ من يلتكم.(تفسير الماوردي، النكت والعيون، 5 /337-338)
وجاء (يلت) بصيغة أخرى {ألتناهم} في الآية الحادية والعشرين من سورة الطور، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(الطور:21)
وفيه تأويلان: أحدهما: ما نقصناهم، قاله ابن عباس، ومعنى الكلام: ولم ينقص الآباء بما أعطينا الأبناء. الثاني: معناه وما ظلمناهم، قاله ابن جبير، ومعنى الكلام: لم نظلم الآباء بما أعطينا الأبناء، وإنما فعل تعالى ذلك بالأبناء كرامة للآباء.(تفسير الماوردي، النكت والعيون، 5 /382)
أي ما أنقصنا من أجورهم من شيء، بل وفينا ووفّرنا. وفي الابتداء نحن أولينا وزدنا على ما أعطينا.(لطائف الإشارات، تفسير القشيري ، 3 /474)
المُهَاجر من هجر مَا نهى الله عَنهُ
يدفع الإمام العيني ما يمكن أن يلتبس على بعض الناس حول حديث أبي سعيد، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، والمتضمن إجابة الرسول، صلى الله عليه وسلم، الأعرابي بشأن سؤاله عن الهجرة، ويذكر قول الْمُهلب: أنه كَانَ هَذَا القَوْل قبل فتح مَكَّة، إِذْ لَو كَانَ بعده لقَالَ لَهُ: "لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح"(1) كَمَا قَالَه لغيره، وَلكنه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، علم أَن الْأَعْرَاب قَلما تصبر على لأواء الْمَدِينَة، أَلا يرى إِلَى قلَّة صَبر الْأَعرَابِي الَّذِي استقال الْهِجْرَة حِين مسته حمى الْمَدِينَة(2) فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِذا أدّيت الْحق الَّذِي هُوَ أكبر شَيْء على الْأَعْرَاب، ثمَّ منحت مِنْهَا، وحلبتها يَوْم وُرُودهَا، لمن ينتظرها من الْمَسَاكِين، فقد أدّيت الْمَعْرُوف من حَقّهَا فرضاً ونفلاً، فَهُوَ أقل لفتنتك كَمَا افْتتن المستقيل الْبيعَة.
ويُروى عن الْقُرْطُبِيّ قوله: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك خَاصّا بِهَذَا الْأَعرَابِي، لما علم من حَاله وَضَعفه عَن الْمقَام بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ بَعضهم: كَانَت الْهِجْرَة على غير أهل مَكَّة من الرغائب، وَلم تكن فرضاً.
وَقول أَبي عبيد: كَانَت الْهِجْرَة على أهل الْحَاضِرَة، وَلم تكن على أهل الْبَادِيَة. وَقيل: إِنَّمَا كَانَت الْهِجْرَة وَاجِبَة إِذا أسلم بعض أهل الْبَلَد، وَلم يسلم بَعضهم؛ لِئَلَّا يجْرِي على من أسلم أَحْكَام الْكفَّار، وَلِأَن فِي هجرته توهيناً لمن يسلم، وَتَفْرِيقًا لجماعتهم، وَذَلِكَ بَاقٍ إِلَى الْيَوْم، إِذا أسلم فِي دَار الْحَرْب، وَلم يُمكنهُ إِظْهَار دينه، وَجب عَلَيْهِ الْخُرُوج، فَأَما إِذا أسلم كل من فِي الدَّار، فَلَا هِجْرَة عَلَيْهِم.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 9 /15)
والْهِجْرَة الْبَاقِيَة الدائمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة هي التي تكون للمعاصي والآثام، لقوله، صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)
فحديث أبي سعيد، المثبت نصه أعلاه، تضمن حواراً تربوياً تعليمياً بين النبي، صلى الله عليه وسلم، وذاك الأعرابي حول قضية حساسة، وهي الهجرة، واحتوى على مضامين وإشارات فقهية وتعليمية وواقعية، جديرة بالتدبر واستخلاص العظات والعبر، كما هو النهج القويم في التعامل مع آيات القرآن الكريم، وأحاديث خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم ، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الهوامش
1. الحديث المشار إليه هنا، هو قوله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)(صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير)
2. الحديث المشار إليه هنا، هو الحديث الذي رواه جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الإِسْلاَمِ، فَأَصَابَهُ وَعْكٌ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المَدِينَةُ كَالكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا)(صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب بيعة الأعراب)
27 محرم 1446هـ