عن أبي مَسْعُودٍ قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ الناس من كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى؛ إذا لم تستحيِ فَاصْنَعْ ما شِئْتَ)(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إذا لم تستحيِ فاصنع ما شئت)
تصدر عن بعض الناس أقوال وأفعال منفلتة من الحشمة والوقار، وهي غير منحصرة في مجال دون سواه من السلوك، فلا تقل وقاحة التفلت من ضوابط الرزانة في مجال كشف العورات، والتلفظ بالفحشاء، عن مهادنة الأعداء على حساب المبادئ والقيم والحقوق المشروعة المسلوبة غصباً، والرسول، صلى الله عليه وسلم، يبين في حديث ابن مسعود أعلاه، أن التصرف المنفلت من الضوابط الكريمة، يدل على خلل في التحلي بخلق الحياء، وهذه قاعدة متوارثة عما أدركه الناس من كلام النبوة الأولى؛ أي في استحسانه على منهاج واحد.(عمدة القاري:22/166)
قال الخطابي: الحكمة في التعبير بلفظ الأمر (فَاصْنَعْ ما شِئْتَ) دون الخبر في الحديث، أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء، فإذا تركه صار كالمأمور طبعاً بارتكاب كل شر.(فتح الباري:10/523)
وجاء في عمدة القاري، أن فيه أوجهاً:
أحدها: إذا لم تستح من العتب، ولم تخش العار، فافعل ما تحدثك به نفسك حسناً كان، أو قبيحاً، ولفظه أمر، ومعناه توبيخ.
الثاني: أن يحمل الأمر على بابه، تقول: إذا كنت آمناً في فعلك أن تستحي منه لجريك فيه على الصواب، وليس من الأفعال التي يستحي منها، فاصنع ما شئت.
الثالث: معناه الوعيد، أي افعل ما شئت تجازى به، كقوله عز وجل: {اعملوا ما شئتم} (فصلت: 40)
الرابع: لا يمنعك الحياء من فعل الخير.
الخامس: هو على طريق المبالغة في الذم، أي تركك الحياء أعظم مما تفعله.(عمدة القاري:16/64)
وفي أهمية الحياء في الردع عن ارتكاب القبائح، يقول الشاعر:
وَرُبَّ قَبِيْحَةٍ مَا حَالَ بَينِي --- وَبَيْنَ رُكُوْبِهَا إِلَّا الحَيَاءُ
فَكَانَ هُوَ الدَّوَاءَ لَهَا وَلَكِنْ --- إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ فَلَا دَوَاءُ
ويقول آخر:
إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي --- وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا تَشَاءُ
فَلَا وَاللَّهِ مَا فِيْ العَيْشِ خَيْرٌ --- وَلَا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ
يَعِيْشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَى بِخَيْرٍ --- وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
الحياء من الإيمان
الحياء الزاجر عن اقتراف الرذائل، له مكانته الدينية والأخلاقية، فهو جزء من شعب الإيمان، كما جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:(الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ من الْإِيمَانِ)(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان)
جاء في عون المعبود أن الحياء في اللغة تغير وانكسار يتعرى الإنسان من خوف ما يعاب به، وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، وإنما أفرده بالذكر؛ لأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحيي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر وينزجر.(عون المعبود:12/282-283)
وقال القاضي عياض وغيره من الشراح: إنما جعل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزة؛ لأنه قد يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، فهو من الإيمان بهذا، ولكونه باعثاً على أفعال البر، ومانعاً من المعاصي.(صحيح مسلم بشرح النووي:2/5)
والتحلي بالحياء من مكارم الأخلاق المحمودة المنسجمة مع الإيمان، فعن سَالِمِ بن عبد اللَّهِ، عن أبيه، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، مَرَّ على رَجُلٍ من الْأَنْصَارِ، وهو يَعِظُ أَخَاهُ في الْحَيَاءِ، فقال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ، فإن الْحَيَاءَ من الْإِيمَانِ)(صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الحياء من الإيمان)
الحياء لا يأتي إلا بخير
فضائل الحياء كثيرة، وخيره واسع، فعن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلا بِخَيْرٍ، فقال بُشَيْرُ بن كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ في الْحِكْمَةِ؛ إِنَّ من الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ من الْحَيَاءِ سَكِينَةً، فقال له عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عن رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَتُحَدِّثُنِي عن صَحِيفَتِكَ؟!)(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء)
وكون الحياء خيراً كله، ولا يأتي إلا بخير، قد يشكل على بعض الناس، من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجله، فيترك أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة، وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة، منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، رحمه الله، أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز وخور ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ونحو هذا.(صحيح مسلم بشرح النووي:2/5-6)
فهذه بعض دلائل أهمية خلق الحياء، عسى أن ييسر الله متابعة الوقوف عند مزيد منها لاحقاً، حسب الوارد عن نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه ووالاه بإحسان إلى يوم الدين.
26 ربيع الثاني 1442هـ