.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

وقوله: "إذا لم تستح فَاصْنَعْ ما شِئْتَ" - الحلقة الثالثة والأخيرة

==========================================================

عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، أَشَدَّ حَيَاءً من الْعَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، فإذا رَأَى شيئا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ في وَجْهِهِ)(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الصبر على الأذى)
تعرضت الحلقة السابقة لبيان أن المجاهرة بالمعاصي تلتقي مع المبادرة لفعل الفضائح والفواحش جهاراً دون استحياء ولا وجل، بقاسم مشترك واضح، مؤداه أن أصحاب الموقفين مذمومون، ينبغي الحذر من اقتفاء آثارهم، والعمل على منوالهم.
فالمجاهرة بالمعاصي مذمومة، وكذلك السلوك المنفلت من الحياء، ويلتقي معهما على ضعف استحضار رقابة الله في الشأن كله، والحياء المحمود يختلف عن الخجل الذي قد يصرف أحياناً عن المبادرة لطلب العلم، أو قول الحق، فاللَّه لَا يَسْتَحِيي من الْحَقِّ، والحياء كأي فضيلة يمكن أن يساء فهمه إذا لم ينسجم التحلي به مع ما يوافق المكارم التي حث على التمسك بها الشرع الحنيف، أما حين يتم التقصير بالواجبات تحت عباءة الحياء، فإنه يتحول من خانة المحمود إلى مسارب المذموم.

أَشَدّ حَيَاءً من الْعَذْرَاءِ في خِدْرِهَا
خير قدوة في التحلي بالمكارم والأخلاق الحميدة، هو الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأبو سعيد في حديثه الصحيح أعلاه يصف حياءه، صلى الله عليه وسلم، فيذكر أنه كان أَشَدَّ حَيَاءً من الْعَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، يبين العيني أن الحياء تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم، و(العذراء) البكر، لأن عذرتها وهي جلدة البكارة باقية، وقوله: (في خدرها) بكسر الخاء وسكون الدال، أي في سترها، ويقال الخدر ستر يجعل للبكر في جنب البيت، فإن قلت مبنى أمر العذراء على الستر، فما فائدة قوله: (في خدرها)؟ قلت: هذا من باب التعميم للمبالغة؛ لأن العذراء في الخلوة يشتد حياؤها أكثر، مما تكون خارجة عن الخدر، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل بها، ثم محل الحياء فيه صلى الله عليه وسلم في غير حدود الله.(عمدة القاري:16/113)
وفيه أن للشخص أن يحكم بالدليل، لأنهم عرفوا كراهته للشيء بتغير وجهه.(عمدة القاري: 22/157)

تعبير بالاستحياء
تعرض النبي، صلى الله عليه وسلم، لموقف من ضيوف تناولوا طعام وليمة لديه، وأبطأوا في الانتشار بعد ذلك، فمنعه الحياء من التعبير لهم عن ضجره من سلوكهم، فعن أَنَسٍ، رضي الله عنه، قال: (بُنِيَ على النبي، صلى الله عليه وسلم، بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، فَأُرْسِلْتُ على الطَّعَامِ دَاعِيًا، فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، فَدَعَوْتُ حتى ما أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو، فقلت: يا نَبِيَّ اللَّهِ، ما أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ، قال: ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ في الْبَيْتِ، فَخَرَجَ النبي، صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ إلى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فقال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فقالت: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ بَارَكَ الله لك، فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ، يقول لَهُنَّ كما يقول لِعَائِشَةَ، وَيَقُلْنَ له كما قالت عَائِشَةُ، ثُمَّ رَجَعَ النبي، صلى الله عليه وسلم، فإذا ثَلَاثَةٌ رَهْطٍ في الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، شَدِيدَ الْحَيَاءِ، فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا نحو حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فما أَدْرِي آخْبَرْتُهُ، أو أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا، فَرَجَعَ حتى إذا وَضَعَ رِجْلَهُ في أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً، وَأُخْرَى خَارِجَةً، أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ)(صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الأحزاب، باب قوله:{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب:53))
قال أَنَسُ بن مَالِكٍ أنا أَعْلَمُ الناس بِهَذِهِ الْآيَةِ، آيَةِ الْحِجَابِ، لَمَّا أُهْدِيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، رضي الله عنها، إلى رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كانت معه في الْبَيْتِ، صَنَعَ طَعَامًا، وَدَعَا الْقَوْمَ، فَقَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَجَعَلَ النبي، صلى الله عليه وسلم، يَخْرُجُ ثُمَّ يَرْجِعُ، وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غير نَاظِرِينَ إِنَاهُ...إلى قَوْلِهِ: من وَرَاءِ حِجَابٍ}(الأحزاب:53) فَضُرِبَ الْحِجَابُ وَقَامَ الْقَوْمُ.(صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الأحزاب، باب قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب:53))


الاستحياء من رَجُلٍ تَسْتَحِيي منه الْمَلَائِكَةُ
ترك صلى الله عليه وسلم، للمسلمين من بعده دروساً عظيمة في الحياء، تجلى ذلك في موقف له حيال صاحبه وصهره عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فعن عَائِشَةَ، قالت: (كان رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، مُضْطَجِعًا في بَيْتِي، كَاشِفًا عن فَخِذَيْهِ أو سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أبو بَكْرٍ، فَأَذِنَ له، وهو على تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ له، وهو كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَسَوَّى ثِيَابَهُ، قال مُحَمَّدٌ: ولا أَقُولُ ذلك في يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فلما خَرَجَ قالت عَائِشَةُ: دخل أبو بَكْرٍ فلم تَهْتَشَّ له، ولم تُبَالِهِ، ثُمَّ دخل عُمَرُ، فلم تَهْتَشَّ له، ولم تُبَالِهِ، ثُمَّ دخل عُثْمَانُ، فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَك،َ فقال: ألا أَسْتَحِي من رَجُلٍ تَسْتَحِي منه الْمَلَائِكَةُ؟!!)(صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان، رضي الله عنه)
وفي رواية فسر رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، تسويته ثيابه لما دخل عثمان بقوله: إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إن أَذِنْتُ له على تِلْكَ الْحَالِ أَنْ لَا يَبْلُغَ إلى في حَاجَتِهِ)(صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان، رضي الله عنه)
فهذه جوانب من دلائل أهمية خلق الحياء، الذي امتاز بالتحلي به النبي الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه ووالاه بإحسان إلى يوم الدين.
10 جمادى الأولى 1442هـ

تاريخ النشر 2020-12-25
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس