عن أَبي هُرَيْرَةَ، يقول: سمعت رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ من الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقد سَتَرَهُ الله، فَيَقُولَ: يا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وقد بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنه)(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه)
تعرضت الحلقة السابقة لبعض دلائل أهمية خلق الحياء، ومن ذلك تبكيت فاقد الحياء من خلال دعوته ليصنع ما يشاء، إلى جانب بيان أن الحياء من الإيمان، وأنه لا يأتي إلا بخير، وفي الحديث أعلاه تأكيد على أن المجاهرين في المعاصي مستثنون من العفو الذي يطال أمة الإسلام، ومن صور المجاهرة المذمومة أن يفشي المرء سراً ستره الله عليه، ملتقياً بذلك مع المبادرين لفعل الفضائح والفواحش جهاراً دون استحياء ولا وجل، والقاسم المشترك بين الموقفين السلبيين واضح، فأحدهما يصنع ما يشاء دون مبالاة لفقدان الحياء، أو لخلل انتابه في هذا الجانب، والآخر يجاهر بالمعصية كاشفاً ما ستره الله عليه، وأصحاب الموقفين مذمومون، ينبغي الحذر من اقتفاء آثارهم، والعمل على منوالهم.
استحضار رقابة الله تعالى
ذم المجاهرة بالمعاصي، والتحذير من السلوك المنفلت من الحياء، يعاضدهما على صعيد آخر استحضار رقابة الله في الشأن كله، فهو سبحانه لا تخفى عليه خافية، ويعلم السر وأخفى، وهذا الاستحضار يعنيه معنى الإحسان في الإسلام، حسب ما جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ،رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ،وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ...)(صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة لقمان، باب قوله: {إن الله عنده علم الساعة} (لقمان: 34))
فمن يستحضر خشية الله ورقابته يفترض فيه أن يبذل الجهد والوسع لتجنب اقتراف المعاصي ما ظهر منها وما بطن، وبالتأكيد أن من تحصيل الحاصل ابتعاد مستحضر رقابة الله عن المجاهرة بالأخطاء، وأن يمنعه الحياء من ارتكاب ما يعاب به، وانطلاقاً من مفهوم المخالفة، فإن من يستحيي من الله يتقيد بضوابط الشرع، التي تحجبه عن ارتكاب ما يجلب له اللوم والعار والذم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فإن الذي يستحضر رقابة الله، يجد رادعاً يمنعه من أن يقف معاضداً لمغتصب أرض المسلمين ومقدساتها، ومنتهك حرماتها، بغض النظر عن حجم معاضدي الظلم وبطش ممارسيه، أما حين تغيب رقابة الله عن وجدان المرء ومعايير سلوكه، فإنه يتخبط في المواقف، ويعوج سلوكه، وقد يصبح في حال يرى فيه المعروف منكراً، والعكس بالعكس، وهنا تكون الداهية، بل الطامة، لامتزاج السلوك بمس الشيطان وزيغه وإضلاله، فالمواقف يعوزها حياء يزينها، وخشية من الله تضبطها، حتى تبقى في عقالها واتزانها، فتنساق في خدمة الإسلام والمسلمين، دون تردد ولا مواربة.
اللَّه لَا يَسْتَحِيي من الْحَقِّ
الحياء المحمود يختلف عن الخجل الذي قد يصرف أحياناً عن المبادرة لطلب العلم، أو قول الحق، فلم يمنع الحياء الرجل ولا المرأة في خير أيام الإسلام وعزه عن التفقه في الدين، فعن أُمِّ سَلَمَةَ، قالت: (جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إلى رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي من الْحَقِّ، فَهَلْ على الْمَرْأَةِ من غُسْلٍ إذا احْتَلَمَتْ؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: إذا رَأَتْ الْمَاءَ، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ - تَعْنِي وَجْهَهَا- وَقَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ تحتلم الْمَرْأَةُ؟! قال: نعم، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟!!)(صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم)
ولم يمنع الحياء المرأة عن الإفصاح عن رغباتها المشروعة بالأساليب والوسائل اللائقة، فعن أَنَس، رضي الله عنه، قال: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، تَعْرِضُ عليه نَفْسَهَا، فقالت: هل لك حَاجَةٌ فِيَّ؟ فقالت ابْنَتُهُ: ما أَقَلَّ حَيَاءَهَا، فقال: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، عَرَضَتْ على رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَفْسَهَا)(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ما لا يستحيا من الحق للتفقه في الدين)
فالحياء كأي فضيلة يمكن أن يساء فهمه إذا لم ينسجم التحلي به مع ما يوافق المكارم التي حث على التمسك بها الشرع الحنيف، أما حين يتم التقصير بالواجبات تحت عباءة الحياء، فإنه ينقلب من خانة المحمود إلى مسارب المذموم، وذلك حين يمنع الحياء مثلاً عن التفقه في الدين، أو عن قول الحق، أو عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو حين يكون ذريعة لمجاملة أهل الزيغ والباطل، فينقلب من خلق كريم، إلى رذيلة مذمومة، والله لا يستحيي من الحق، ونعم الشجاعة التي تكون في جنب الخير، ونصرة الحق، ودحر الباطل وإنكاره.
فهذه دلائل أخرى على أهمية خلق الحياء، الذي يشترك مع ذم المجاهرة بالمعاصي، ومع استحضار رقابة الله تعالى، في تحقيق غايات سلوكية سامية، والتحلي بمكارم نبيلة، مما يدل على دوره العظيم، ومكانته الرفيعة في منظومة القيم ومكارم الأخلاق.
عسى أن ييسر الله متابعة الوقوف عند مزيد من دلائل أهمية الحياء لاحقاً، حسب الوارد عن نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه ووالاه بإحسان إلى يوم الدين.
3 جمادى الأولى 1442هـ