عن أُسَامَة بن زَيْدٍ يُحَدِّث سَعْدًا، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(إذا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فلا تَدْخُلُوهَا، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا منها)(صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون)
الطاعون من الأمراض الفتاكة، التي تندرج في قائمتها الأوبئة المعروفة قديمها وحديثها، والتي لن يكون آخرها وباء "الكورونا"، والأوبئة لها أعراض وآثار، قد تفضي إلى حصد أرواح كثير من الناس، إن تركت دون وقاية منها وعلاج واحتياطات، والإسلام يحترم حياة الإنسان، ويعزز مقومات حفظها، ويحرم الاعتداء عليها، ومن مقاصده الرئيسة حفظ الأبدان، ومن قواعده الفقهية أن حفظ الأبدان مقدم على حفظ الأديان، والتطبيقات العملية لهذه القاعدة كثيرة.
ومن منهج الإسلام في مواجهة الأوبئة تحجيمها إلى أضيق نطاق، ومن ذلك العلاج الوقائي منها، بما بات يعرف عالمياً بالحجر، أو العزل الصحي، حيث كان للرسول، صلى الله عليه وسلم، سبق تاريخي في الحث على الأخذ به، مع أن المسألة صحية، إلا أن حفظ الوجود البشري ودرء المخاطر عنه، أمر عني به الإسلام أيما عناية، كيف لا؟! وقد اعتبر الله من يقتل نفساً بغير حق، كمن يقتل الناس جميعاً، ومن يساعد في المحافظة على بقائها وحياتها، فكأنما أحيا الناس جميعاً، فقال عز وجل:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ...}(المائدة:32)، فضوابط حفظ الصحة البدنية، تتوافق مع ضوابط الصحة العقلية والعقائدية للناس، وتنطلق من مبادئ راسخة، وشريعة بينة، لا عوج فيها.
الحجر - العزل- الصحي
وباء الطاعون عرف منذ زمن بعيد، ويعد من الأمراض السارية الفتاكة، التي تنتقل من إنسان مصاب إلى آخر، بالعدوى، ومن متطلبات الوقاية منه عزل البيئة التي يظهر فيها، وحصره فيها، حتى يعزل الوباء عن التفشي في بيئات أخرى، وموضوع الحجر، أو العزل الصحي، لمن يصابون بالأمراض السارية، تتعاطى معه الجهات الصحية والطبية المسؤولة، بعناية وحرص واهتمام.
ولقد كان للإسلام سبق واضح في الحث على الحجر الصحي، ومثل هذا الحث الناجع لمواجهة الأوبئة يشكل نبراساً واضحاً للمسلمين أولاً، وللناس كافة أيضاً، على هذا الصعيد الحيوي والخطير.
نفر من قدر الله إلى قدر الله
لم يقتصر الحث على الحجر الصحي وقاية من الأوبئة الفتاكة أو الأمراض السارية، على الجانب النظري، بل كانت له تطبيقات عملية وقعت في صدر الإسلام، فعن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، خَرَجَ إلى الشأم، حتى إذا كان بِسَرْغَ(*)، لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ: أبو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قد وَقَعَ بِأَرْضِ الشام، قال ابن عَبَّاسٍ: فقال عُمَرُ: ادْعُ لي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قد وَقَعَ بالشأم، فَاخْتَلَفُوا، فقال بَعْضُهُمْ: قد خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، ولا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عنه، وقال بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ الناس وَأَصْحَابُ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، ولا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ على هذا الْوَبَاءِ، فقال: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قال: ادعوا لي الْأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فقال: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قال: ادْعُ لي من كان هَا هُنَا من مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ من مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فلم يَخْتَلِفْ منهم عليه رَجُلَانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ ولا تُقْدِمَهُمْ على هذا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ في الناس: إني مُصَبِّحٌ على ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عليه.
قال أبو عُبَيْدَةَ ابن الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا من قَدَرِ اللَّهِ؟
فقال عُمَرُ: لو غَيْرُكَ قَالَهَا يا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نعم نَفِرُّ من قَدَرِ اللَّهِ إلى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لو كان لك إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا له عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إن رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قال: فَجَاءَ عبد الرحمن بن عَوْفٍ - وكان مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ- فقال: إِنَّ عِنْدِي في هذا عِلْمًا، سمعت رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول:(إذا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بها؛ فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه، قال: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ)(صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون)
فما أجمل رد عمر بن الخطاب، على من احتج على ترك الذهاب إلى بلد فيه وباء كالطاعون، حيث قال:(نَفِرُّ من قَدَرِ اللَّهِ إلى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لو كان لك إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا له عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إن رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ).
وحيث إن المقام يضيق هنا عن التوسع في بيان أبعاد الأمر بالحجر الصحي عند تفشي الأوبئة، فنسأل الله أن ييسر متابعة الحديث عن تفاصيل أخرى تتعلق بهذا الأمر لاحقاً، انطلاقاً مما جاء بالخصوص عن الرسول الأسوة محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
* بِسَرْغَ، (قرية بوادي تبوك، وقيل هي مدينة افتتحها أبو عبيدة وهي اليرموك)(شرح الزرقاني:4/294)
11 رجب 1441هـ