عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَفَاتِيحُ (مَفَاتِحُ) الْغَيْبِ خَمْسٌ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ؛ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللهُ".(صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قول الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} [الرعد: 8])
تكرر ذكر لفظ الغيب في القرآن الكريم ما يقارب أربعين مرة، وتناول هذا الذكر موضوعات ذات صلة بقضية الغيب، التي هي قضية عقائدية تترك آثاراً في سلوك المؤمنين به من جانب، وفي سلوك منكريه من جانب آخر، وفي هذا الحديث الشريف بيان لمفاتيح الغيب وعددها، وقد يكون من الحسن استذكارها في ظل قضايا تتواصل في الوجود والحياة؛ كالحمل والولادة، والأمراض والأحداث التي يتعرض لها الناس، ومتى يصابون بالموت أو ينجون منه، وأحوال أرزاقهم وفقرهم وغناهم، والظروف التي يعيشونها، وما يتخللها من مستجدات وتغيرات تطرأ في واقعهم، بمستويات وأحوال تتعلق بالأفراد والأمم والدول، فهناك دول تزول، وأخرى توجد، وهكذا، إضافة إلى حلول فصل الشتاء الذي تتخلله تغيرات في أحوال الطقس، وتوقعات تتعلق بأحواله القادمة، بشأن هطول الأمطار وتساقط الثلوج، وحركة الرياح، وصفاء الجو، وتَكَّوُنِ الصقيع، وما إلى ذلك من أحداث، فهل هذه القضايا تعد من الأمور الغيبية أو لها تفسير آخر؟ هذا ما ستتم محاولة الإجابة عنه في ثنايا القضايا والعناوين المنوي الوقوف عندها خلال التطرق لموضوع الواقع وعلم الغيب من ناحية شرعية وطبيعية وعلمية وواقعية.
معنى الغيب في اللغة والاصطلاح والمطلق منه والنسبي
الغيب لغة: جاء في لسان العرب أن الغيب هو كلُّ ما غاب عنك.
وقال أَبو إِسحق في قوله تعالى: {يؤمنون بالغَيْبِ} أَي يؤمنون بما غابَ عنهم، مما أَخبرهم به النبيُّ، صلى اللَّه عليه وسلم، من أَمرِ البَعْثِ والجنةِ والنار، وكلُّ ما غابَ عنهم مما أَنبأَهم به، فهو غَيْبٌ.
ويُقال: سمعت صوتاً من وراء الغَيْب؛ أَي من موضع لا أَراه.
وتكرر في الحديث ذكر الغيب، وهو كل ما غاب عن العيون، سواء كان مُحَصَّلاً في القلوب، أَو غير محصل، وغابَ عَنِّي الأَمْرُ غَيْباً، وغِياباً، وغَيْبَةً، وغَيْبُوبةً، وغُيُوباً، ومَغاباً، ومَغِيباً، وتَغَيَّب: بَطَنَ. (لسان العرب/ 1/ 654)
ووردت تعريفات كثيرة لمصطلح الغيب، منها: أنه كل ما غاب عن العقول والأنظار من الأمور الحاضرة والماضية والمستقبلة، وقد استأثر الله عز وجل بعلمه، واختص نفسه سبحانه بذلك.(أصول الإيمان في الكتاب والسنة:1/89-91)
مَفَاتِيحُ (مَفَاتِحُ) الْغَيْبِ خَمْسٌ
في نص الحديث المثبت نصه أعلاه: "مَفَاتِيحُ (مَفَاتِحُ) الْغَيْبِ خَمْسٌ" والله تعالى يقول: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(الأنعام:59)
يبين ابن عاشور أن الْمَفَاتِح جَمْعُ مِفْتَحٍ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَهُوَ الْآلَةُ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا الْمُغْلَقُ، وَتُسَمَّى الْمِفْتَاحُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِفْتَحَ أَفْصَحُ مِنْ مِفْتَاحٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}(الْقَصَص: 76).
وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَلَى عِلْمِ النَّاسِ، بِحَيْثُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَل الْأَعْيَان المغيّبة؛ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَالْأَعْرَاضَ الْخَفِيَّةَ، وَمَوَاقِيتَ الْأَشْيَاءِ. (التحرير والتنوير:6/270)
جاء في عمدة القاري عن الزمخشري، قوله: جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة؛ لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالإغلاق والأقفال، ومن علم مفاتحها، وكيف تفتح، توصل إليها، فأراد أنه هو المتوصل إلى علم المغيبات وحده، لا يتوصل إليها غيره، كمن عنده مفاتح أقفال المخازن، يعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن.
وذكر ابن أبي حاتم عن السدي {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} قال: خزائن الغيب. وقال مقاتل: عنده خزائن غيب العذاب متى ينزله بكم؟ وعن الجوزي قوله: مفاتح الغيب هو: ما غاب عن بني آدم من الرزق والمطر والثواب، وقيل إنها السعادة والشقاوة، وقيل الغيب عواقب الأعمار، وخواتيم الأعمال. وقال الثعلبي: هي خزائن الأرض. وقيل هو ما لم يكن بعد، أنه يكون لم لا يكون، وما يكون، وكيف يكون.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:27/205)
ويبين محمد الطاهر بن عاشور أن {مَفَاتِحُ الْغَيْب} هنا استعارة تخييلية، شبهت فيها الأمور المغيبة عن الناس بالمتاع النفيس الذي يدخر بالمخازن، والخزائن المستوثق عليها بأقفال، بحيث لا يعلم ما فيها إلا الذي بيده مفاتحها، وأثبتت لها المفاتح على سبيل التخييلية، والقرينة هي إضافة المفاتح إلى الغيب، فقوله: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} بمنزلة أن يقول: عنده علم الغيب الذي لا يعلمه غيره.
ومفاتح الغيب جمع مضاف يعم كل المغيبات، لأن علمها كلها خاص به تعالى، وأما الأمور التي لها أمارات؛ مثل أمارات الأنواء، وعلامات الأمراض عند الطبيب، فتلك ليست من الغيب، بل من أمور الشهادة الغامضة، وغموضها متفاوت، والناس في التوصل إليها متفاوتون، ومعرفتهم بها من قبيل الظن لا من قبيل اليقين، فلا تسمى علماً، وقيل: (المفاتح) جمع مفتح بفتح الميم، وهو البيت أو المخزن الذي من شأنه أن يغلق على ما فيه، ثم يفتح عند الحاجة إلى ما فيه، ونقل هذا عن السدي، فيكون استعارة مصرحة، والمشبه هو العلم بالغيب، شبه في إحاطته وحجبه المغيبات ببيت الخزن، تشبيه معقول بمحسوس. (التحرير والتنوير:6/136)
الْغَيْب المطلق لاَ يَعْلَمُه إلا الله
حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، المثبت نصه أعلاه، يؤكد فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، أن مَفَاتِيحُ (مَفَاتِحُ) الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، وثبت ذكر هذه الحقيقة الإيمانية في آيات من القرآن الكريم، التي في إحداها يقول جل شأنه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(الأنعام:59)، فالله عنده خزائن الغيب، لا يعلمها إلا هو، ومنها: علم الساعة، ونزول الغيث، وما في الأرحام، والكسب في المستقبل، ومكان موت الإنسان، ويعلم كل ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة من نبتة إلا يعلمها، فكل حبة في خفايا الأرض، وكل رطب ويابس، مثبت في كتاب واضح لا لبْس فيه، وهو اللوح المحفوظ. (التفسير الميسر:2/354)
يبين محمد الطاهر بن عاشور أن جملة {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} مبينة لمعنى {عنده}؛ فهي بيان للجملة التي قبلها، ومفيدة تأكيداً للجملة الأولى أيضاً، لرفع احتمال أن يكون تقديم الظرف لمجرد الاهتمام، فأعيد ما فيه طريق متعين كونه للقصر، وضمير {يعلمها} عائد إلى {مَفَاتِحُ الْغَيْب} على حذف مضاف من دلالة الاقتضاء، تقديره: لا يعلم مكانها إلا هو، لأن العلم لا يتعلق بذوات المفاتح، وهو ترشيح لاستعارة مفاتح الغيب للعلم بالمغيبات، ونفي علم غيره لها كناية عن نفي العلم بما تغلق عليه المفاتح من علم المغيبات. (التحرير والتنوير:6/136)
قال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (النمل: 65)، وقال تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الكهف: 26)، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد: 9).
ولا يعلم الغيب أحد إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عمن هو دونهما.
قال الله تعالى عن نوح، عليه السلام: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (هود: 31)، وقال تعالى عن هود، عليه السلام: { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} (الأحقاف: 23)، وقال تعالى لنبيه محمد، عليه الصلاة والسلام: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (الأنعام: 50)، وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(البقرة: 31- 32).
علم الغيب النسبي
الله سبحانه قد يُطْلع بعض خلقه على بعض الأمور المغيبة عن طريق الوحي، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}(الجن: 26-28)
وهذا من الغيب النسبي الذي غاب علمه عن بعض المخلوقات دون بعض، أما الغيب المطلق فلا يعلمه إلا هو سبحانه، ومن ذا الذي يدعي علمه وقد استأثر الله به؟؟!!
فمعنى {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} أي علماً مستقلاً به، فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(الجن:26-27)؛ فلذلك علم يحصل لمن أطلعه بإخبار منه، فكان راجعاً إلى علمه هو سبحانه، والعلم معرفة الأشياء بكيفية اليقين. (التحرير والتنوير:6/136)
ولهذا فإن الواجب على كل مسلم أن يحذر من الدجاجلة والكذابين المدعين لعلم الغيب المفترين على الله، الذين ضلوا في أنفسهم، وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل؛ كالسحرة والكذابين والمنجمين، وغيرهم.(أصول الإيمان في الكتاب والسنة:1/89-91)
فهذه توطئة للحديث عن جوانب تتعلق بالغيب، الذي اختص الله بعلمه، تم التعرض فيها لمعنى الغيب في اللغة والاصطلاح، والمراد بمَفَاتِيحُ (مَفَاتِحُ) الْغَيْبِ وأنها خَمْسٌ، وأنه لا يعلمها إلا هو سبحانه، سائلين الله العلي القدير أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من جوانب هذا الموضوع ومجالاته، في ضوء ما جاء بالخصوص في آيات القرآن الكريم، وحديث نبينا محمد الكريم، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
11 جمادى الآخرة 1446هـ