يقول الله جل في علاه في قرآنه الكريم المنزل على خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} (لقمان:34)
تعرضت الحلقة السابقة لحصر علم مفاتيح الغيب بالله سبحانه، حيث طلب الله من رسوله الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، البيان للناس بأنه لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، فهو سبحانه يعلم حديث النفس، ويعلم السر وأخفى، ويَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا، وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ، وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ، وفي هذا السياق ينبغي التفريق بين العلم المتعلق بكشف الأمور الخفية بأساليب مشروعة، الذي لا يعد من قبيل ادّعاء علم الغيب، إذ هو لا يتعدى تشخيص موجودات من دلالاتها ومؤشراتها وعلاماتها وأماراتها، وبين زعم علم الغيب، الذي يكون عادة دون وسائل علمية، كأعمال الكهانة والعرافة والتنجيم، فهذه الأعمال وما يشابهها، يرفضها الإسلام، ويحذر من التعاطي معها، سواء بالفعل، أم طلب خدمات أصحابها.
وبهذا يكون قد تم الوقوف عند مفتاحين من مفاتيح علم الغيب، يتعلق أحدهما بعلم مَا فِي غَدٍ، والآخر بالعلم بمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ.
الْمَطَرُ وموعد نزوله
المفتاح الثالث من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، يتعلق بحصر العلم بموعد نزول الْمَطَر بالله سبحانه، حيث جاء في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما: "وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ" يبين ابن حجر العسقلاني أن في هذا إشارة إلى العالم العلوي، وخص المطر مع أن له أسباباً قد تدل بجري العادة على وقوعه، لكنه من غير تحقيق. (فتح الباري لابن حجر، 20 448)
وفي الآية الكريمة أعلاه من سورة الأنفال، نص على أنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، والمراد بالغيث هنا المطر. (أيسر التفاسير للجزائري، 4 /218)، وعلى الرغم من أن الاستخدام الغالب للفظ المطر يكون في سياق ذكر العذاب، كما في قوله عز وجل: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (الأعراف:84)، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال:32) وقوله سبحانه: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} (هود:82) وغير ذلك من الآيات الكريمة.
إلا أن لفظ المطر استخدم للدلالة على الماء المنزل من السماء، كما في حديث ابن عمر وغيره من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الصحيحة، فقد ذكر المطر بهذا المعنى في قوله تعالى:{....وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء:102)، واستخدام لفظ "الغيث" يكون في سياق ذكر نزول ماء السماء نعمة للخلق، لكن بعضهم يستخدمه للشر والضرر، أو يقلب الله ظروف استقباله لتصبح ظروف سخط وعذاب، فعَنْ أَبي مُوسَى، عَنِ النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَني اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِي قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِى دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَني اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ). (صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي، صلى الله عليه وسلم، من الهدى والعلم)
ومن علم الغيب بالنسبة إلى المطر أن الناس لا يدرون حين ينزل ماء السماء هل هو نازل لإغاثتهم، أم لعذابهم، فعن أبي هريرة، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا). (صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في سكنى المدينة وعمارتها قبل الساعة) ومعنى "لَيْسَتِ السَّنَةُ" أي القحط الشديد، أو الجدب، وهي من الأسماء الغالبة، ويقال اسنتوا إذا أجدبوا، وقوله: "بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا" أي لا ينزل عليكم المطر، أي قد تكون أن تمطروا وتمطروا، والتكرير للتأكيد والتكثير، ولا تنبت الأرض شيئاً. قال القاضي: المعنى أن القحط الشديد ليس بأن لا يمطر، بل بأن يمطر، ولا ينبت، وذلك لأن حصول الشدة بعد توقع الرخاء وظهور مخائله وأسبابه، أفظع مما إذا كان اليأس حاصلاً من أول الأمر، والنفس مترقبة لحدوثها. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 5 /237-238)
علم النجوم
جاء في عون المعبود تحت: باب في النجوم، قول منسوب إلى الخطابي أن علم النجوم المنهي عنه هو ما يدل عليه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع، كمجيء الأمطار، وتغير الأسعار، وأما ما يعلم به أوقات الصلاة، وجهة القبلة، فغير داخل فيما نهي عنه.
فالمنهي عنه من علوم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث التي لم تقع، وربما تقع في مستقبل الزمان، مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح، ومجيء ماء المطر، ووقوع الثلج، وظهور الحر والبرد، ويزعمون أنهم يستدركون معرفتها بسير الكواكب واجتماعها وافتراقها، وهذا علم استأثر الله به، لا يعلمه أحد غيره، كما قال تعالى في الآية الرابعة والثلاثين من سورة لقمان، المثبت نصها أعلاه.
فأما ما يدرك عن طريق المشاهدة من علم النجوم، الذي يعرف به الزوال، وجهة القبلة، فإنه غير داخل فيما نُهي عنه، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأنعام:97)، وقال تعالى: {...وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل:16)
فأخبر سبحانه أن النجوم طريق لمعرفة الأوقات والمسالك، ولولاها لم يهتد الناس إلى استقبال الكعبة.
وفيه عن الخطابي قوله: والعرب تسمي المطر سماء، لأنه من السماء ينزل، والنوء واحد الأنواء، وهي الكواكب الثمانية والعشرون التي هي منازل القمر، كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل ببعض تلك الكواكب، فأبطل النبي، صلى الله عليه وسلم، قولهم، وجعل المطر من فعل الله سبحانه، دون فعل غيره. (عون المعبود، 10/284-285، بتصرف)
نفي التضارب بين علم الغيب وعلم أحوال الطقس
إثبات اختصاص الله سبحانه بعلم موعد نزول المطر، وتمكن علم الأرصاد الجوية من وصف حالة الطقس، لا تضارب بينهما، فعلم الله الغيبي يعنى العلم الأزلي الذي لا يقوم على لزوم وجود مقدمات دالة للكشف عن توقعات الأرصاد الجوية بخلاف ما يكون بالنسبة إلى علم الأرصاد، فعلم الله سبحانه بالخصوص مطلق غير مقيد بمقدمات أو مؤشرات دالة على ما سيكون بالنسبة إلى أحوال الطقس، من برد وحرارة، ومطر وجفاف، وثلج وصقيع ورياح وصفاء، وما إلى ذلك من الأحوال، فعلم الأرصاد يرتبط بسنن كونية وحسابات مرتبطة بما خلق الله وأوجد، لكن علم الله مطلق يكشف عن أحوال الطقس وموعد نزول المطر دون الحاجة إلى وجود مقدمات دالة على ما سيكون، بل إنه سبحانه هو الذي يخلق تلك الدلالات والآيات، من أصلها، ويعلم بما ستؤول إليه الأمور، ومن الأمثلة المشاهدة في الحياة المقربة للصورة، ولله المثل الأعلى أولاً وأخيراً، أن الإخبار من قبل مشاهدين لتحرك موكب من منطقة يسكنونها باتجاه منطقة أخرى، يكون بناء على مشاهدة عينية لذلك التحرك، فالذين يشاهدون انطلاق الموكب يتمكنون من العلم بحركته مباشرة، أو عن طريق وسائل توافرت لديهم، ويعلمون بهذا الكشف بحركة الموكب، لكن الموجودين في المنطقة البعيدة الأخرى، يعجزون عن العلم بهذا التحرك دون إخبار من غيرهم، أو دون الحصول على أجهزة رقابة ترصده، ضمن الممكن والمتاح لديهم، ويكذب من يزعم بعلم تلك الحركة الحسية دون استخدام التقنيات اللازمة لذلك، هذا في إطار العلم البشري، بخلاف العلم الرباني الذي يعلم بالشيء قبل أن يكون، ودون الحاجة إلى الاستعانة بمقدمات أو تقنيات للعلم والإدراك، فالله سبحانه خلق سنن الكون، وخلق النجوم وأصل المواد وأخبر سبحانه عن متعلقات بهذا العلم المطلق، وفي إطار ما خلق الله يجتهد الخلق بالاستعانة بالعلم الذي خلق الله مواده وخصائصه، ليصلوا إلى نتائج علمية، بعيداً عن التخمين والتنجيم وزعم علم الغيب، والله سبحانه فتح الباب الواسع للبحث العلمي في مكنونات خلقه، وفي إطار السنن الكونية التي هي أصلاً من خلق الله، فقال عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (الرحمن:33)
ولعلماء التفسير آراء عدة في تفسير هذه الآية الكريمة، منها ما قاله د. عبد الكريم الخطيب أن فيها إغراء وتحريضاً لعالمي الإنس والجن، على التسابق في ارتياد هذا الكون، والنفوذ من أقطار السموات والأرض، والغوص في أعماقهما، ولكن ذلك لا يكون إلا لمن ملك بين يديه القوة التي تمكن له من اخترق أطباق الأرض، وأجواء السماء، وتلك القوة هي التي أشارت إليها الآية الكريمة بكلمة «سلطان» .. والسلطان الذي يمنح الإنسان تلك القوة، هو العلم فبسلطان العلم يمتلك الإنسان القوة، وبتلك القوة وبالقدر الذي يحصل عليه الإنسان منها، يكون مبلغه من النفوذ في أقطار السموات والأرض.. (التفسير القرآني للقرآن، 1 /153)
وبالنسبة إلى العلم بوقت نزول المطر، فينبغي العلم بأن الله هو الموجد للمطر ومقدماته الدالة عليه، وهو سبحانه يعلم بأحواله وكمياته وأوقات نزوله أزلياً، بينما البشر يعلمون بوسائل ووسائط للكشف عن أحوال الطقس من خلال الاستعانة بالمقدمات والأسباب التي خلقها الله، وخلق سبل الاستدلال بها على نزول المطر من خلال الحذاقة في التوصل لتلك الآليات والمقدمات والأسباب، سواء بالعمليات الحسابية، أو باستخدام تقنيات علمية خاصة، فهذه الطريقة العلمية مشروعة ولا غبار عليها دينياً، بينما يمنع اللجوء للتخمين والتنجيم اللذين لا يقومان على أسس وتقنيات علمية، فضربهما آثم، ومسارهما خاطئ، ودربهما عقيم.
فهذه وقفة أخرى عند قضية حصر العلم بمفاتيح الغيب بالله سبحانه، تم خلالها التركيز على المفتاح الثالث من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والمتعلق بموعد نزول الْمَطَرُ، آملين التوفيق للوقوف عند دلالة الاستسقاء على تسيير نزول المطر، وعند مزيد من مفاتيح الغيب الأخرى، حسب الوارد عن ذكرها في القرآن الكريم، وهدي نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
25 جمادى الآخرة 1446هـ