.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يؤكد على أنه لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ - الحلقة الثانية

==========================================================

يخاطب الله، نبيه الكريم محمداً، صلى الله عليه وسلم، بقوله عز وجل: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل:65)
أشارت الحلقة السابقة إلى تكرر ذكر لفظ الغيب في القرآن الكريم، وتناول موضوعات ذات صلة بقضية الغيب، التي هي قضية عقائدية تترك آثاراً على سلوك المؤمنين بها بطريقة إيجابية من جانب، وعلى سلوك منكريها بطريقة سلبية من جانب آخر، مع الإشارة إلى أن قضايا الغيب تتواصل في الوجود، وإلى معنى الغيب في اللغة والاصطلاح، وأنه لا يعلم الغيب أحد إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عمن هو دونهما.
وأنه سبحانه قد يطلع بعض خلقه على بعض الأمور المغيبة عن طريق الوحي، وهذا من الغيب النسبي الذي غاب علمه عن بعض المخلوقات دون بعض، أما الغيب المطلق فلا يعلمه إلا هو سبحانه.
ما يعني لزوم الحذر من الدجاجلة والكذابين المدعين لعلم الغيب المفترين على الله، الذين ضلوا في أنفسهم وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل.
وبالنسبة إلى مَفَاتِيحُ (مَفَاتِحُ) الْغَيْبِ فهي خمس حسب ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، والمفتاح هي الْآلَةُ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا الْمُغْلَقُ، وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَلَى عِلْمِ النَّاسِ، بِحَيْثُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَل الْأَعْيَان المغيّبة؛ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَالْأَعْرَاضَ الْخَفِيَّةَ، وَمَوَاقِيتَ الْأَشْيَاءِ. وقد جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، وبهذا تمت التوطئة للحديث عن جوانب تتعلق بالغيب، الذي اختص الله بعلمه.
ينحصر علم مفاتيح الغيب بالله سبحانه
الآية الكريمة الخامسة والستون من سورة النمل، المثبت نصها أعلاه، تتضمن خطاباً كريماً من الله جل في علاه، موجهاً لنبيه الكريم، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، تضمن طلب البيان للناس بأنه لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، أي قل - أيها الرسول - لهم: بأنه لا يعلم أحد في السماوات ولا في الأرض، ما استأثر الله بعلمه من المغيَّبات، ولا يدرون متى هم مبعوثون مِن قبورهم عند قيام الساعة؟ (التفسير الميسر:7/13)
وجاء في التفسير المنير أن في معنى هذه الآية أيضاً قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (الجن:26-27)
ويعلم سبحانه حديث النفس، ويعلم السر وأخفى، فقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (النمل:74-75)
وقال سبحانه: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق:16)
وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19) (التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج:7/237)
ومن آيات الذكر الحكيم التي تؤكد هذه الحقيقة بصريح ألفاظها ومعانيها، قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام:59)
ويقول عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً} (الكهف:22)
وفي حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، سالف الذكر، بيان أن مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وهي:
عْلَمُ مَا فِي غَدٍ
علم ما في المستقبل، ينحصر بالله تعالى، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ) يبين ابن حجر العسقلاني أن فِي قَوْله هذا إِشَارَة إِلَى أَنْوَاع الزَّمَان، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحَوَادِث، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ (غَد) لِتَكُونَ حَقِيقَته أَقْرَب الْأَزْمِنَة، وَإِذَا كَانَ مَعَ قُرْبِهِ لَا يَعْلَم حَقِيقَة مَا يَقَع فِيهِ مَعَ إِمْكَان الْأَمَارَة وَالْعَلَامَة، فَمَا بَعُدَ عَنْهُ أَوْلَى. (فتح الباري:13/365)
وحتى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، نفى عن نفسه علم ما في غد وتركه لله، كما جاء في حديث
خَالِد بْن ذَكْوَانَ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: (دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ (آبَائِي) يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ) (صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب منه)
جاء في مرقاة المفاتيح أن قول الجارية: (وفينا نبي يعلم ما في غد) يعني فينا نبي يخبر عن المستقبل، ويقع على وفقه، فقال: (دعي هذه) أي اتركي هذه الحكاية أو القصة أو المقالة، وقولي بالذي كنت تقولين، أي من ذكر المقتولين ونحوه، وإنما منع القائلة مقولها: (وفينا نبي... الخ) لكراهة نسبة علم الغيب إليه، لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وإنما يعلم الرسول من الغيب ما أخبره، أو لكراهة أن يذكر في أثناء ضرب الدف، وأثناء مرثية القتلى؛ لعلو منصبه عن ذلك. (مرقاة المفاتيح:5/2065)
و(ما في غد) ينحصر العلم بتحقق وجوده من عدمه بالله سبحانه، وهو القائل جل شأنه في خطابه الموجه لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}(الكهف:23-24) أي لا تقل يا محمد في شأن تريد فعله مستقبلاً، سأفعل كذا إلاّ أن تقول إن شاء الله. (أيسر التفاسير للجزائري:3/250)
وهذا التوجيه- وإن كان في الأصل موجهاً للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم- فإنه يشمل كذلك الناس جميعاً، وفي هذا السياق ينبغي التفريق بين العمل العلمي لكشف الأمور الخفية بأساليب مشروعة، فهذا لا يعد من قبيل إدعاء علم الغيب، إذ هو لا يتعدى تشخيص موجودات من دلالاتها ومؤشراتها وعلاماتها وأماراتها، بينما زعم علم الغيب من الخلق يكون دون وسائل علمية؛ كالكهانة والعرافة والتنجيم، بما يتعارض مع الحقائق العلمية والدينية، من هنا ينبذ الإسلام هذه الأعمال وما يشابهها، ويحذر من التعاطي معها سواء بالفعل، أم طلب خدمات أصحابها، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان)
يبين النووي أن العراف هو من جملة أنواع الكهان، ويروى عن الخطابي وغيره أن العراف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق، ومكان الضالة ونحوهما، وأما عدم قبول صلاته، فمعناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة.(شرح النووي على مسلم:14/227) فالعراف يدَّعي الغيب، وهذا يدلّ على أن إتيان العرافين كبيرة. (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم:8/132)
عْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ
أحد مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، التي ورد ذكرها في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، سالف الذكر، علم ما في الأرحام، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللهُ) وفي سورة الرعد يقول عز وجل: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد:8) قول: (ما تغيض الأرحام) الوارد في الآية الكريمة والحديث الشريف، يبين العيني أن فيه إشارة إلى ما يزيد في النفس وينقص، وخص الرحم بالذكر؛ لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك ينفي أن يعرف أحد حقيقتها.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:25/86)
يذكر الشنقيطي في أضواء البيان آراء في تفسير الغيض والزيادة هنا، فَقِيلَ: الغيض والزيادة يرجعان إلى الولد، كنقصان إصبع وغيرها، وزيادة إصبع وغيرها، وقيل: الغيض: انقطاع دم الحيض، وما تزداد: بدم النفاس بعد الوضع، ونسب ذكر هذين القولين القرطبي.
وقيل: تغيض: تشتمل على واحد، وتزداد: تشتمل على توأمين فأكثر، ومرجع هذه الأقوال كلها إلى شيء واحد، وهو أنه تعالى عالم بما تنقصه الأرحام وما تزيده؛ لأن معنى تغيض: تنقص، وتزداد، أي: تأخذه زائداً، فيشمل النقص المذكور: نقص العدد، ونقص العضو من الجنين، ونقص جسمه إذا حاضت عليه فتقلص، ونقص مدة الحمل بأن تسقطه قبل أمد حمله المعتاد، كما أن الازدياد يشمل: زيادة العضو، وزيادة العدد، وزيادة جسم الجنين إن لم تحض وهي حامل، وزيادة أمد الحمل عن القدر المعتاد، والله جل وعلا يعلم ذلك كله، والآية تشمله كله. (أضواء البيان بإيضاح القرآن بالقرآن:2/226)
فهذا المفتاح من مفاتيح الغيب (وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللهُ) يشمل العلم به بشكل رئيس ومباشر، اختصاص الله سبحانه بتعيين جنس الجنين القادم، إضافة إلى الاختصاص بتقدير من سيكون العقيم من الأزواج، وعن هذه الحقيقة الإيمانية يقول عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى:49-50)
وكون الأطباء يستطيعون كشف العقم أو جنس المولود قبل الولادة، لا يتعارض مع حقيقة علم الله بما تغيض الأرحام، وإرجاع خلق الذكور والإناث والعقم والإخصاب لفعل الله سبحانه وعلمه، فالأطباء يكشفون في مرحلة من خلق الإنسان ووجوده عن إمكانية تمكنه من الإنجاب، أو استحالة ذلك بسبب إصابته بعقم قاطع أو نسبي، وكذلك بالنسبة إلى تحديد جنس المولود، فهم يتعاطون مع معطيات ومقدمات في ضوئها يبينون نتائج طبية، تختلف عن حقيقة العلم الأزلي بالخصوص، فهذه الاستطاعة البشرية على مكانتها وقدرها لا تتعارض مع العلم الأعمق والأبعد بأحوال هذا الجانب الذي يبقى أصل وجوده غيباً عن الخلق.
فهذه وقفة عند قضية حصر العلم بمفاتيح الغيب بالله سبحانه، وعند مفتاحين من مفتاحين منهما، وهما المتعلقان بعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، والعْلَمُ بمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ، آملين التوفيق للوقوف عند مزيد من مفاتيح الغيب الأخرى، حسب الوارد ذكرها في القرآن الكريم، وهدي نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
18 جمادى الآخرة 1446هـ

تاريخ النشر 2024-12-20
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس