.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يؤكد على أنه لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ - الحلقة الخامسة

==========================================================

يطلب الله جل في علاه من نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، أن يبين للناس بأن علم الغَيْب محصور به سبحانه، فيقول تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس:20)
وقفت الحلقة السابقة عند دلالة الاستسقاء على تسيير نزول المطر، حيث نزل المطر-الغيث- بعد الاستسقاء دون وجود الغيم والريح، وما إلى ذلك من المقدمات التي عادة تبشر بالغيث القادم، إضافة إلى انقطاع المطر بعد دعاء الله بالخصوص، بعد أسبوع من نزوله المتواصل، حسب ما جاء في الحديث الصحيح، ما يدل على أن الأمر أولاً وآخراً لله سبحانه، يُصَّرف الأمور كيف يشاء، بإرادته وقدرته وعلمه المطلق سبحانه، ولن يجد مؤمن بالله مشكلة في التوفيق بين إيمانه، وبين التعاطي مع العلم والاختراع.
ووقفت الحلقة كذلك عند المفتاحين الرابع والخامس من مفاتيح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والمتعلقين بحصر العلم بموعد بالمكان الذي سيموت فيه الإنسان، بعلم الله جل في علاه، فلا يدري أحد من الخلق ماذا كتب اللّه له من عمر .. كما لا يدري أحد على أي ميتة يموت، ولا في أي موضع يموت! وقد وصف الله مجيء الموت بالسكرة، وفي هذه الاستعارة تهويل لحالة احْتِضَارِ الْإِنْسَانِ، وشعوره بأنه مفارق الحياة التي أَلفها، وتعلَّق بِهَا قَلْبه.
والمفتاح الخامس من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى المذكورة في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، يتعلق بحصر العلم بموعد قيام الساعة، وهذا المفتاح مشار إليه في عدد من الآيات القرآنية الكريمة، والمراد بالساعة واضح أنها القيامة، فذلك تعبير قرآني عنها، وسميت القيامة ساعة؛ لأنها تحمل أشد الأهوال، ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة، حياة فانية، وأخرى باقية، حياة عمل، وحياة جزاء.

إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ
الآية عشرون من سورة يونس المثبت نصها أعلاه، تؤكد بأن علم الغيب محصور بالله، فكل غيب صغر أم كبر لا يعلمه إلا الله، فهذا مبدأ عقائدي نصت عليه هذه الآية الكريمة،

يبين ابن عاشور أن الغيب: ما غاب عن حواس الناس من الأشياء، والمراد به هنا ما يتكون من مخلوقات غير معتادة في العالم الدنيوي من المعجزات. وتفسير هذا قوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} (الأنعام: 109).
واللام للملك، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله، وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق، صلى الله عليه وسلم، أن يأتي بما يسأله قومه من الخوارق، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه، ليعلموا أنهم يرمون بسؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام.
وجملة: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} تفريع على جملة: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ}؛ أي ليس دأبي ودأبكم إلا انتظار ما يأتي به الله إن شاء، كقول نوح لقومه: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (هود: 33).
وهذا تعريض بالتهديد لهم، أن ما يأتي به الله لا يترقبون منه إلا شراً لهم، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} (الأنعام: 8). (التحرير والتنوير، 11 /51)
ويذكر الزحيلي أن أهل مكة قالوا هلا أُنْزِلَ على محمد، صلى اللّه عليه وسلّم، آيَةٌ حسية كونية مادية من الآيات التي اقترحوها، كما كان للأنبياء: من ناقة صالح، والعصا واليد لموسى، والمائدة لعيسى، عليهم السلام، فَقُلْ: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي أن المختص بعلم الغيب، ولا يأتي بالآيات إلا هو، وإنما عليّ التبليغ، ولعله لا ينزلها، لعدم الفائدة في إنزالها، فقد نزلت آيات كثيرة، ولم يؤمن بها المعاندون الجاحدون، والمانع من إنزالها أمر مُغيب، لا يعلمه إلا هو، فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه، أو العذاب إن لم تؤمنوا، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل اللّه بكم بجحودكم. (التفسير المنير للزحيلي، 11 /137-138)
عَالِمُ الْغَيْبِ
ذكرت عبارة عالم الغيب في اثنتي عشرة آية قرآنية، منها اثنتان دون إضافة {والشهادة}، وهما في الآية 3 من سورة سبأ، و26 من سورة الجن، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (سبأ:3)
جاء في تفسير السعدي أن الله تعالى لما بين عظمته، بما وصف به نفسه، وكان هذا موجباً لتعظيمه وتقديسه، والإيمان به، ذكر أن من أصناف الناس، طائفة لم تقدر ربها حق قدره، ولم تعظمه حق عظمته، بل كفروا به، وأنكروا قدرته على إعادة الأموات، وقيام الساعة، وعارضوا بذلك رسله، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي باللّه وبرسله، وبما جاءوا به، فقالوا بسبب كفرهم: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أي: ما هي إلا هذه الحياة الدنيا، نموت ونحيا. فأمر اللّه رسوله أن يرد قولهم ويبطله، ويقسم على البعث، وأنه سيأتيهم، واستدل على ذلك بدليل من أقرَّ به، لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة، وهو علمه تعالى الواسع العام، فقال: {عَالِمِ الغَيْبِ} أي: الأمور الغائبة عن أبصارنا، وعن علمنا، فكيف بالشهادة؟.
ثم أكد علمه فقال: {لا يَعْزُبُ} أي: لا يغيب عن علمه {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ} أي: الأشياء جميعها بذواتها وأجزائها، حتى أصغر ما يكون من الأجزاء، وهو المثاقيل منها.
{وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه، وتضمنه الكتاب المبين، الذي هو اللوح المحفوظ، فالذي لا يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه، في الأوقات جميعها، ويعلم ما تنقص الأرض من الأموات، وما يبقى من أجسادهم، قادر على بعثهم من باب أولى، وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط. (تفسير السعدي، 1/674)
وقال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} (الجن:26)
يبين الماوردي أن في {عالِمُ الغيْب}أربعة أوجه:
أحدها: عالم السر. الثاني: ما لم تروه مما غاب عنكم.
الثالث: أن الغيب القرآن. الرابع: أن الغيب القيامة وما يكون فيها. (النكت والعيون، 6/122)
ويبين الرازي أن الخلق عجزوا عن معرفة ذواتهم وصفاتهم، فكيف يقدرون على معرفة أبعد الأشياء عنهم؟!! والعرب عرفوا ذلك فقال قائلهم: وأعرف ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقال لبيد: فوالله ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع (تفسير الرازي: مفاتيح الغيب، 2 /101)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
عطفت الشهادة على الغيب في الذكر {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} في عشر آيات ضمن تسع سور قرآنية؛ حيث تكرر ذكرها في آيتين من سورة التوبة، والجدول الآتي يبين توزيع هذه الآيات العشر حسب السورة ورقم الآية ونصها:
تسلسل السورة الآية نص الآية

1 الأنعام 73 {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ
الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}

2 الرعد 9 {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}
3 المؤمنون 92 {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

4 السجدة 6 {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

5 التوبة 94 {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ
نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

6 التوبة 105 {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

7 الزمر 46 {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}

8 الحشر 22 {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}

9 الجمعة 8 {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

10 التغابن 18 {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

معنى الغيب ما غاب عن المخلوقين، والشهادة ما شاهدوه. (التسهيل لعلوم التنزل، 2 /353)
فالله محيط بعالمي الغيب والشهادة، عالم بما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال جميعاً، وأنه لا فرق بالنسبة إليه بين السر والعلن، فقال تعالى: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرعد:10) فالأمر سيان بالنسبة لله، يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه، من أسر من الناس القول في نفسه، ومن أظهره لغيره. (تفسير أبي السعود، 5/8، بتصرف)
فهذه وقفة أخرى عند قضية حصر العلم بمفاتيح الغيب بالله سبحانه، تم خلالها التنويه إلى بعدين متداخلين، أحدهما يتعلق بـحصر الْغَيْبُ لِلّهِ، والثاني بعَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ سبحانه، عسى أن يحفز المتدبر بالآيات ودروسها وعبرها ليزداد إيمانه بربه وترتفع وتيرة خشيته منه سبحانه، عالم الغيب الذي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، ونسأله عز وجل التوفيق للوقوف عند مزيد من قضايا علم الغيب، في ضوء القرآن الكريم، وهدي نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
10 رجب 1446هـ

تاريخ النشر 2025-01-10
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس