يطلب الله جل في علاه من نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، أن يبين للناس بأن ساعة الموت التي يعلمها سبحانه وقدرها لا مفر منها، فيقول تعالى: {...قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ...}(آل عمران:154)
ويؤكد جل في علاه هذه الحقيقة بقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ...}(النساء:78)
وقفت الحلقة السابقة عند المفتاح الثالث من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والمتعلق بحصر العلم بموعد نزول الْمَطَرُ بالله سبحانه، ولفظ المطر استخدم للدلالة على الماء المنزل من السماء، ومن علم الغيب بالنسبة إليه أن الناس لا يدرون حين ينزل هل هو لإغاثتهم، أم لعذابهم؟ وبالنسبة إلى علم النجوم؛ فالمنهي عنه ما يدعيه بعض المتعاطين معه من معرفة الحوادث التي لم تقع، وربما تقع في مستقبل الزمان، مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح، ومجيء ماء المطر، وتساقط الثلج، وظهور الحر والبرد، ويزعمون أنهم يستدركون معرفتها بسير الكواكب واجتماعها وافتراقها، وهذا علم استأثر الله به، لا يعلمه أحد غيره. فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم، الذي يعرف به الزوال، وجهة القبلة، فإنه غير داخل فيما نُهِيَ عنه، ولا تضارب بين إثبات اختصاص الله سبحانه بالعلم بموعد نزول المطر، وبين وصف حالة الطقس، من قبل الأرصاد الجوية، فعلم الله سبحانه بالخصوص مطلق غير مقيد بمقدمات أو مؤشرات تدل على ما سيكون من أحوال الطقس، من برد وحرارة، ومطر وجفاف، وثلج وصقيع وصفاء، والله هو الذي يخلق تلك الدلالات والآيات من أصلها، ويعلم ما ستؤول إليه الأمور، فسبحانه يعلم الشيء قبل أن يكون، دون الحاجة إلى الاستعانة بمقدمات أو تقنيات للعلم والإدراك، فالله خلق سنن الكون، وخلق النجوم وأصل المواد، وأخبر سبحانه عن متعلقات هذا العلم المطلق، وفي إطار ما خلق الله يجتهد الخلق بالاستعانة بالعلم الذي خلق الله مواده وخصائصه؛ ليصلوا إلى نتائج علمية، بعيداً عن التخمين والتنجيم وزعم علم الغيب، وفتح سبحانه الباب الواسع للبحث العلمي في مكنونات خلقه، في إطار السنن الكونية التي هي أصلاً من خلق الله.
وبالنسبة إلى العلم بوقت نزول المطر؛ فينبغي العلم بأن الله هو الموجد للمطر ومقدماته الدالة عليه، وعلمه سبحانه بأحواله وكمياته وأوقات نزوله أزلي، بينما البشر يعلمون بوسائل ووسائط للكشف عنه بالاستعانة بالمقدمات والأسباب التي خلقها الله، وخلق سبل الاستدلال بها على نزول المطر بالحذاقة في التوصل لتلك الآليات والمقدمات والأسباب، سواء بالعمليات الحسابية، أم باستخدام تقنيات علمية للعلم بأحوال الطقس، فهذه الطريقة العلمية مشروعة، ولا غبار عليها دينياً، بينما يمنع اللجوء للتخمين والتنجيم الذي لا يقوم على أسس وتقنيات علمية، لأن هذا ضرب آثم، ومساره خاطئ، ودربه عقيم.
دلالة الاستسقاء على تسيير نزول المطر
ضمن متابعة الحديث عن العلم بمواعيد نزول المطر، يجدر التذكير بدلالة الاستسقاء على تسيير نزول المطر، إذ يسن للمسلمين عند انحباس المطر اللجوء إلى الاستسقاء طلباً للغيث، والمتدبر في الحديث النبوي بالخصوص يلحظ أن المطر- الغيث- نزل بعد الاستسقاء دون وجود الغيم والريح، وما إلى ذلك من المقدمات التي عادة تبشر بالغيث القادم، إضافة إلى انقطاع المطر بعد دعاء الله أن يوقفه، بعد أسبوع من نزوله المتواصل، حسب ما جاء في الحديث الصحيح، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: (أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَلَكَ المَالُ، وَجَاعَ العِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الغَدِ وَبَعْدَ الغَدِ، وَالَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ - أَوْ قَالَ: غَيْرُهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ البِنَاءُ وَغَرِقَ المَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا» فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ، وَصَارَتِ المَدِينَةُ مِثْلَ الجَوْبَةِ، وَسَالَ الوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ).(صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة)
وهذا يدل على أن الأمر أولاً وأخيراً لله سبحانه، يُصَّرف الأمور كيف يشاء، بإرادته وقدرته وعلمه المطلق سبحانه، ولن يجد مؤمن بالله مشكلة في التوفيق بين إيمانه، وبين التعاطي مع العلم والاختراع.
مكان الموت وساعته
المفتاح الرابع من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، يتعلق بحصر العلم بالمكان الذي سيموت فيه الإنسان، يبين ابن حجر أن في قوله: (وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (صحيح البخاري) إشارة إلى أمور العالم السفلي، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده، ولكن ليس ذلك حقيقة، بل لو مات في بلده لا يعلم في أي بقعة يدفن فيها، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه، بل قبر أعده هو له. (فتح الباري لابن حجر:20/448)
وفي الآية الكريمة الرابعة والثلاثين من سورة لقمان، يقول عز وجل: {...وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(لقمان:34)
يعني بأي مكان تموت، وبأي قدم تؤخذ، وبأي نفس ينقضي أجلها.(بحر العلوم:3/29)
وفيه وجهان: أحدهما: على أي حكم تموت؛ من سعادة أو شقاء، حكاه النقاش.
والثاني: في أي أرض يكون موته ودفنه، وهو أظهر، والله أعلم.(النكت والعيون:4/350)
فهذا من بعض علم اللّه في خلقه، وأنه سبحانه، هو الذي يقدّر الأرزاق، كما يقدّر الأعمار... فلا يدري إنسان ماذا قسم اللّه له من رزق، وماذا كتب اللّه له من عمر... كما لا يدري أحد على أي ميتة يموت، ولا في أي موضع يموت! {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}... فهو سبحانه الذي يعلم كل هذا، علم الخبير بما يعلم.(التفسير القرآني للقرآن:1/139)
وفي المقتبس أعلاه من الآية: 154 من سورة آل عمران، والآية: 78 من سورة النساء، تأكيد لهذه الحقيقة الإيمانية، فيقول تعالى: {...قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ...}(آل عمران:154) ويقول عز وجل:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ...}(النساء:78)
سكرة الموت
وصف الله مجيء الموت بالسكرة، فقال عز وجل: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(ق:19) يبين ابن عاشور أن المجيء مجاز في الحصول والاعتراء، وفي هذه الاستعارة تهويل لحالة احتضار الإنسان وشعوره بأنه مفارق الحياة التي ألفها، وتعلق بها قلبه.
والسكرة: اسم لما يعتري الإنسان من ألم، أو اختلال في المزاج يحجب من إدراك العقل؛ فيختل الإدراك، ويعتري العقل غيبوبة. وهي مشتق من السكر، بفتحٍ فسكون، وهو الغلق؛ لأنه يغلق العقل، ومنه جاء وصف السكران.
والباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للملابسة، وهي إما حال من سكرة الموت؛ أي متصفة بأنها حق، والحق: الذي حق وثبت فلا يتخلف؛ أي السكرة التي لا طمع في امتداد الحياة بعدها، وإما حال من الموت؛ أي ملتبساً بأنه الحق؛ أي المفروض المكتوب على الناس فهم محقوقون به، أو الذي هو الجد ضد العبث؛ كقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ...}(التغابن:3) وقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً...}(ص:27).
وقول {ذَلِكَ} إشارة إلى الموت بتنزيل قرب حصوله منزلة الحاصل المشاهد.(التحرير والتنوير:26/306)
السَّاعَةُ وموعد قيامها
المفتاح الخامس من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى المذكورة في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، يتعلق بحصر العلم بموعد قيام الساعة بالها سبحانه، يبين ابن حجر أن في قوله: (وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللهُ)(صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام}(الرعد:8)) إشارة إلى علوم الآخرة، فإذا لم يعلم أولها مع قربها، فنفي علم ما بعدها أولى.(فتح الباري لابن حجر:20/448)
وهذا المفتاح مشار إليه في عدد من الآيات القرآنية الكريمة، منها قوله عز وجل فيها: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ...}(لقمان:34) وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}(الأنعام:31)
والمراد بالساعة واضح أنها القيامة، فذلك تعبير قرآني عنها، وسميت القيامة ساعة؛ لأنها تحمل أشد الأهوال، ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة؛ حياة فانية، وأخرى باقية، حياة عمل، وحياة جزاء.
والساعة تجيء من غير علم بوقتها للجميع، فكيف تكون بغتة للذين كذبوا بلقاء الله دون غيرهم، حسب ما جاء في قوله تعالى: {... حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً...} يجيب عن هذا التساؤل محمد أبو زهرة، فيبين بأن الذين آمنوا بلقاء الله تعالى يتوقعونها، وإن لم يعلموا وقتها، أما الذين كذبوا؛ فهم يكفرون بها فيفاجأون بها، وإن الذين آمنوا يرجون لقاء ربهم، ويرجون رحمته، وأما الذين كفروا بلقاء الله تعالى فلا رجاء عندهم.
أولئك الذين تجيئهم القيامة ولقاء ربهم بغتة، ويرون العذاب، تصيبهم حسرة، أي غم شديد.
والتفريط هو الإهمال وعدم العناية، والغفلة عما يجب للأمر.(زهرة التفاسير:1/2481، بتصرف)
فهذه وقفة أخرى عند قضية حصر العلم بمفاتيح الغيب بالله سبحانه، تم خلالها التنويه إلى دلالة الاستسقاء على تسيير نزول المطر، إضافة إلى التركيز على المفتاحين الرابع والخامس من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وهما المتعلقان بمكان الموت وموعد قيام السَّاعَة، آملين التوفيق للوقوف عند مزيد من قضايا علم الغيب، في ضوء القرآن الكريم، وهدي نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
3 رجب 1446هـ