.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يؤكد على أنه لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ - الحلقة السادسة

==========================================================

يطلب الله جل في علاه من نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، أن يبين للناس بأنه لا يعلم الغيب، فيقول جل ذكره: {قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام:50)
وقفت الحلقة السابقة عند حصر الغيب بالله جل في علاه، بموجب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ}(يونس:20) فكل غيب صغر أم كبر لا يعلمه إلا الله، والغيب: ما غاب عن حواس الناس من الأشياء، واللام للملك، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله.
وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق، صلى الله عليه وسلم، أن يأتي بما يسأله قومه من الخوارق، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه، ليعلموا أنهم يرمون بسؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام.
وجملة: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} (يونس:20) تفريع على جملة: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي ليس دأبي ودأبكم إلا انتظار ما يأتي به الله إن شاء، وقد ذكرت عبارة عالم الغيب في اثنتي عشرة آية قرآنية، منها اثنتان دون إضافة {والشهادة}، وهما في الآية 3 من سورة سبأ، و26 من سورة الجن، وعطفت الشهادة على الغيب في الذكر {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} في عشر آيات ضمن تسع سور قرآنية؛ حيث تكرر ذكرها في آيتين من سورة التوبة، ومعنى الغيب ما غاب عن المخلوقين، والشهادة ما شاهدوه.
فالله محيط بعالمي الغيب والشهادة، عالم بما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال، وأنه لا فرق بالنسبة إليه بين السر والعلن، فقال تعالى: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرعد:10)، فالأمر سيان بالنسبة إلى الله، يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه، من أسر من الناس القول في نفسه، ومن أظهره لغيره.

لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
الخطاب الرباني الموجه للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في الآية الثلاثين من سورة الأنعام، المثبت نصها أعلاه، يطلب فيه رب البرية سبحانه، من النبي، صلى الله عليه وسلم، أن ينفي للناس ثلاثة أمور من تلك التي قد يتوهم بعضهم أنها من امتيازاته، صلى الله عليه وسلم، ومنها نفيه علم الغيب، فيقول عز وجل: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام:50)
أي قل- أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إني لا أدَّعي أني أملك خزائن السماوات والأرض، فأتصرف فيها، ولا أدَّعي أني أعلم الغيب، ولا أدَّعي أني ملك، وإنما أنا رسول من عند الله، أتبع ما يوحى إليَّ، وأبلِّغ وحيه إلى الناس.(التفسير الميسر:2/345)
يبين الزحيلي الفائدة من نفي هذه الأحوال، وتتمثل بإظهار الرّسول، صلى الله عليه وسلم، تواضعه للّه، وعبوديته له، وإظهار عجزه عن الإتيان بالمعجزات المادية القاهرة القوية، فهذا من قدرة اللّه اللائقة به، ويعني ذلك أنه لا يدعي الألوهية ولا الملكية.(التفسير المنير:10/210)
وعن خَالِد بْن ذَكْوَانَ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: (دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ (آبَائِي) يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ: "وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ" فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ)(صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب منه)
وتكررت الإشارة إلى نفي علم الغيب عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، في عدد من الآيات القرآنية الأخرى، ففي سورة هود يقول تعالى: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}(هود:31) وفي سورة الأعراف يقول عز وجل: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف:188)
وعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا، صلى الله عليه وسلم، رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، وَهْوَ يَقُولُ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهْوَ يَقُولُ: {لاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}.(صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}(الجن:26))


مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا
نفى الله علم الرسول، صلى الله عليه وسلم، الغيب، فقال عز وجل: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49)
يبين ابن عاشور أن الإشارة بـ {تِلْكَ} إلى ما تقدم من خبر نوح، عليه السلام، والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر، وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس، أو عن فريق منهم، فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم، لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبي يقال له: نوح، عليه السلام، أصاب قومه طوفان، وما عدا ذلك فهو غيب. (التحرير والتنوير:11/275)
ومن العلم المغيب عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ما يكون من أعمال الخلق، ومنهم أصحابه وأتباعه بعد موته، صلى الله عليه وسلم، ويشهد لهذا قوله، عليه الصلاة والسلام: (يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي، فَيُحَلَّئُونَ (فَيُجْلَوْنَ) عَنِ الْحَوْضِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أَصْحَابِي! فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى)(صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض)
يبين الشوكاني بأن المراد بـ(الحوض) هو حوض الكوثر للشرب منه في الموقف.(فتح القدير:5/353)
ويبين العيني أن الرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل إلى الأربعين، ولا يكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، وقوله: (فيحلئون) من التحلئة على صيغة المجهول، أي يمنعون ويطردون، يقال: حلأه عن الماء إذا طرده، ومنعه منه، ويروى (فيجلون) على صيغة المجهول أيضاً، أي يصرفون، وقوله: (على أدبارهم) ويروى على أعقابهم، وقوله: (القهقرى) هو الرجوع إلى خلف.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:33/406)
فهذا الحديث يدل على أن النبي، صلى الله عليه وسلم، فوجئ بردة بعض أتباعه من بعده عن الدين، حتى أعلمه الله يوم الموقف بصنيعهم هذا.
أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ
تساؤل إنكاري تصدر بعض الآيات القرآنية، يفيد أن علم الغيب محجوب عن الخلق، فهناك آيتان تكررتا بالألفاظ نفسها في سورتي الطور والقلم، حيث قال جل شأنه في الآية 41 من سورة الطور، والآية 47 من سورة القلم: {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}(القلم:47)(الطور:41)
أي أم عندهم علم الغيب، فهم يستملون منه أنباء المستقبل، ويرون على ضوئه ما ينتظرهم على طريق الحياة؟ إنهم لا يلتفتون إلى هذا النور الذي بين يدي النبيّ، صلى الله عليه وسلم، الذي لا يسألهم أجراً عليه، فهل معهم نور يهتدون به؟ وهل عندهم علم من الغيب يكشف لهم معالم الطريق الذي هم سائرون فيه؟ إنهم يسيرون في ثقة واطمئنان، ولا يدرون أنهم محجوبون عن رؤية المصير المشؤوم الذي هم صائرون إليه ..(التفسير القرآني للقرآن:2/153) فليس الأمر لا يعلم الغيب في السماوات والأرض إلا الله.(التفسير الميسر:9/341)
وقيل: المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد، صلى الله عليه وسلم الذي يتربصون به و(يكتبون) بمعنى يحكمون، وقال ابن عباس: يعني أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون به.(المحرر الوجيز:5/ 174)
فالحاصل أنهم لا يحيطون بعلم الغيب، وكما يزعمون، لأنه بالتالي ليست لديهم إمكانية أو قدرة على كتابة ما في الغيب وبيان ما فيه.
أما الآية 35 من سورة النجم، فدلت على معنى مشابه، لكن مع اختلاف في بعض الألفاظ، فقال تعالى: {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}(النجم:35)
يبين ابن عاشور أن الاستفهام في {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} إنكاري على توهمه أن استئجار أحد ليتحمل عنه عذاب الله ينجيه من العذاب، (أي ما عنده علم الغيب) وهذا الخبر كناية عن خطئه فيما توهمه.
والجملة استئناف بياني للاستفهام التعجبي من قوله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} الخ.
وتقديم {أعِنْدَهُ} مسند على {عِلْمُ الْغَيْبِ} وهو مسند إليه؛ للاهتمام بهذه العندية العجيب ادعاؤها، والإشارة إلى بُعده عن هذه المنزلة. (التحرير والتنوير:27/129)
فهذه وقفة أخرى عند قضية حصر العلم بمفاتيح الغيب بالله سبحانه، تم خلالها التركيز على أبعاد ومحاور ذات صلة بهذا الموضوع العقائدي، تعلق أحدها بنفي الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن نفسه علم الغيب حيث قال: {لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وتعلق الآخر بنفي الله عن رسوله، صلى الله عليه وسلم، علم ما الغيب الماضي والحاضر والمستقبل، لولا أن علمه الله أخباره،
أما البعد الثالث فقد أُنكر فيه على أهل الضلال ضلالهم وانحرافهم، وهم ليس عندهم علم الغيب، وعبر عن هذا الإنكار بأسئلة إنكارية، {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ...}؟!! و{أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ...}؟!!
عسى أن ينفع الله المتدبرين بهذه الأبعاد والمحاور المستقاة من الأدلة الشرعية ليزداد مؤمنهم إيماناً، ويُهدى بها من فكر وأحسن التدبر إلى خير الهدى، ونسأله سبحانه التوفيق للوقوف عند مزيد من قضايا علم الغيب، في ضوء القرآن الكريم، وهدي نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
17 رجب 1446هـ

تاريخ النشر 2025-01-17
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس