عن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ من الناس، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فيه، ألا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإِنَّ في الْجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ)(صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات)
بينت الحلقة السابقة أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، على الرغم من مكانته الرفيعة والسامية وشهادة الله له بالطهر والنقاء الأخلاقي، لم يترفع أن يخبر شخصين مرا بجانبه ليلاً أن مرافقته هي زوجه صفية بنت حيي، متقياً بذلك الريبة والظن المذموم، مما يعني أن أي شخص مهما بلغت درجته ومكانته لا يستغني عن إبعاد الشبهات عن نفسه، دحضاً لعمل الشيطان الذي يَجْرِي من الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، أي أن الريبة تفتح المجال لسوء الظن، لأن الشيطان يحرص على بث الظنون في النفوس وتضخيم الحوادث، ونسج الخيال الواهم، فكان التوضيح الدافع للريبة وقاية فاعلة من وسوسة الشيطان.
في اتقاء الشبهات استبراء للدين والعرض
للحديث الشريف أعلاه صلة واضحة بحديث "هذه صفية" الذي ناقشنا بعض أبعاده في الحلقة السابقة، فهناك كان المسعى لدفع وساس الشيطان عن الصحابيين اللذين مرا بجانب الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو يرافق زوجه صفية المحجبة عنهما، وفي هذا الحديث بيان واضح أن البر والاستبراء للدين والعرض في ترك المشتبه به من الأمور، وبخاصة قضايا الحلال والحرام، فبتجنب الشبهات تحصل البراءة لدين المرء من الذم الشرعي، والصيانة لعرضه عن كلام الناس، ويوضح الرسول، صلى الله عليه وسلم، الموقف الشرعي من الشبهات، بصورة من الواقع المشاهد للناس، فيقول: (إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه)، ومعناه أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكلٍ منهم حمى يحميه من الناس، ويمنعهم دخوله، فمن دخله أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى، خوفاً من الوقوع فيه، ولله تعالى أيضاً حمى، وهي محارمه،
أي المعاصي التي حرمها الله، كالقتل، والزنى، والسرقة، والقذف، والخمر، والكذب، والغيبة، والنميمة، وأكل المال بالباطل، وأشباه ذلك، فكل ذلك حمى الله تعالى، من دخله بارتكابه شيئاً من المعاصي استحق العقوبة، ومن قاربه يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه لم يقاربه، ولا يتعلق بشيء يقربه من المعصية، فلا يدخل في شيء من الشبهات.( صحيح مسلم بشرح النووي:11/28)
النهي عن اتباع خطوات الشيطان
التنبيه إلى أن الشيطان يَجْرِي من الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وأنه قد يَقْذِفَ في القُلُوبِ سُوءًا، يتماشى تماماً مع النهي الرباني عن اتباع خطوات الشيطان، حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(البقرة:168)
فالشيطان إضافة إلى كونه عدواً للإنسان مبين، فإنه يأمر بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ، كما جاء في الآية القرآنية التالية: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة:169)، يقول الرازي في تفسيره الكبير عن هذه الآية الكريمة أنها تفصل جملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثة أولها السوء، وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح، أو من أفعال القلوب، وثانيها الفحشاء، وهي نوع من السوء؛ لأنها أقبح أنواعه، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي، وثالثها {أَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وكأنه أقبح أنواع الفحشاء؛ لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ} فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر، والكفر، والجهل بالله (التفسير الكبير:5/4-5)، لذا أمر عز وجل بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فقال جل شأنه: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأعراف: 200)
اسم المرأة ليس بعورة
من الأمور الفقهية المستنبطة من حديث صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، ومن قوله صلى الله عليه وسلم بالذات:(على رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ) أنه صلى الله عليه وسلم لم يتستر على اسم زوجه، داحضاً بذلك موقف الذين يحرصون على ستر أسماء أزواجهم وأخواتهم وبناتهم وأمهاتهم، وكأن أسماءهن عورات يقتضي سترها، فهل لدى هؤلاء حرص على العورات والأعراض أكثر منه صلى الله عليه وسلم؟! فكيف ستحقق إشهار النكاح على الوجه التام حين يُبقى على اسم الزوجة مستوراً؟! فالذين يضعون وردة أو حرفاً بالإنجليزية أو العربية في بطاقات الدعوة إلى الأفراح كمؤشر على اسم العروس المستور، إنما يبالغون في الحرص حد الذم، كونهم يشددون على أمر لم يفعله النبي، صلى الله عليه وسلم، بل كان منه خلافه، إضافة إلى إضاعة فرصة للإشهار الواضح بالنكاح.
أعاذنا الله من الشيطان الرجيم، ووقانا من اتباع خطواته، وهدانا سبحانه للتحلي بأخلاق رسولنا الأسوة، صاحب الخلق الجم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
23 ربيع الثاني 1441هـ