.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يجذب عيون المسلمين وقلوبهم وعقولهم وأبدانهم إلى مسراه - الحلقة الثانية والأخيرة

==========================================================

عن أبي ذَرٍّ، قال:(قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرض أَوَّلُ؟ قال: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قلت: ثُمَّ أَيٌّ؟ قال: الْمَسْجِدُ الأَقْصَى، قلت: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قال: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ، فَهُوَ مَسْجِدٌ)(صحيح مسلم).
عرضت الحلقة السابقة التذكير بمسوغات الاهتمام بالمسجد الأقصى المبارك، انطلاقاً من دين الإسلام وأصوله وتاريخه وواقعه، وبخاصة من ناحية ربطه بالمسجدين الحرام في مكة المكرمة، والنبوي في المدينة المنورة، مع ما لكل من هذه المساجد الثلاثة من خصائص وميزات، ووقفت عند قضية الحث على شد الرحال إليها، الذي ينحصر تشريعه إليها على وجه البسيطة، دون سواها من المساجد، صغيرها وكبيرها، وأجريت مناقشة مختصرة لمسألة حصر شد الرحال لهذه المساجد، تخللها بيان حكم شد الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة.

ثاني مسجد وضع في الأرض
من خصائص المسجد الأقصى المبارك البارزة أنه المسجد الثاني الذي وضعه الله في الأرض لعبادته سبحانه، كما جاء في حديث أبي ذر أعلاه، والفارق الزماني بينه وبين المسجد الحرام الذي سبقه في الوجود هو أربعون سنة، ولهذه الخصيصة من الدلالة على أهمية المسجد الأقصى المبارك ما لها، فالمساجد في الأرض شرقها وغربها، شمالها وجنوبها لا تعد ولا تحصى، لكن لم تكن حظوة السبق في الوجود إلا للمسجد الحرام، تلاه مباشرة المسجد الأقصى المبارك، مما يشير دون أي ريب إلى مكانة هذين المسجدين وعظمتيهما، ومن أغرب المستعجب أن ينسى هذا الفضل كثير من المسلمين على مختلف منازلهم، بدليل تقاعسهم عن نصرته والذود عن حياضه، وهم يشاهدون بأعينهم ما يجري له من تدنيس، وما يتعرض له من حرب ضروس.

المسرى
ومن أعظم أوجه أهمية المسجد الأقصى المبارك في الإسلام، أن الله سبحانه اختاره مسرى لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، من بيته الحرام في مكة المكرمة، وأنزل سورة في قرآنه الكريم أسماها الإسراء، افتتحها بالإخبار عن عظمة هذا الحدث الديني والتاريخي والرباني، فقال عز وجل:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(الإسراء:1)، فكيف لمسلم يؤمن بالله رباً، وبمحمد، صلى الله عليه وسلم، رسولاً ونبياً، وبالقرآن الكريم كتاباً من الله منزلاً، وبالملائكة والنبيين، واليوم الآخر، أن يتجاهل أهمية المسرى؟! أو أن يفرط في ترابه، أو أن يتغاضى عن تدنيسه وتقسيمه وظلم رواده؟! تساؤل حقيق بالطرح دائماً، لأن واقع ردود أفعال بني المسلمين عجيب غريب تجاه ما يجري لمسرى نبيهم الهادي، صلى الله عليه وسلم، فبعضهم بلغ به التهاون أن قال بأنه مسجد كباقي المساجد، وهي غيره كثيرة، وبعضهم حزين باستحياء على ما يجري له، فهو يرى، لكن حرارة حزنه لم تستدع دمع عينه لتسكب عليه، حيث بعض الدنيا بأشغالها ومتاعها تلهيه عنه، والحجة البائسة أن ما في اليد حيلة، وهذان الصنفان مسيئان، وإن على تفاوت في الدرجة، لكن المحصلة واحدة تعني أن المسرى لا يجد من حاملي هكذا أفكار وفهم عقيم نصرة، بل على العكس من ذلك، فإنه يكتوي بنار خذلانهم، وسموم طعنهم، وكآبة مواقفهم.

أولى القبلتين
المسجد الأقصى المبارك أولى قبلتي صلاة المسلمين، فعن البَرَاءِ بن عازب:(أَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، كان أَوَّلَ ما قَدِمَ المَدِينَةَ، نَزَلَ على أَجْدَادِهِ- أو قال: أَخْوَالِهِ من الأَنْصَار- وَأَنَّهُ صلى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أو سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكان يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صلى أَوَّلَ صَلاةٍ صَلاهَا قِبلَ البَيتِ الحرامِ صَلاةَ العَصْرِ، وَصَلَّى معه قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صلى معه، فَمَرَّ على أَهْلِ مَسْجِدٍ، وَهُمْ رَاكِعُونَ، فقال: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، لقد صَلَّيْتُ مع رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كما هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قد أَعْجَبَهُمْإِذْ كان يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فلما وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، أَنْكَرُوا ذلك).(صحيح البخاري)
والتساؤل المشروع الذي يطرح عند الحديث عن الإسراء والمعراج، لِمَ كان إلى المسجد الأقصى، وكان يمكن أن يتم المعراج مباشرة من المسجد الحرام إلى السماء؟!يطرح مثله هنا، لِمَ كانت قبلة أولى إلى بيت المقدس، ثم عدل عنها إلى المسجد الحرام في مكة المكرمة القبلة الأخيرة، وكان يمكن أن تكون القبلة واحدة إلى مكة من البداية إلى النهاية؟! لكن الله يصرف الأمور ويقدرها كيفما يشاء، وله من وراء ذلك حِكم ومقاصد وغايات، يجتهد الخلق بالتدبر والنظر في استنباطها، ومن ذلك لفت الأنظار والقلوب والعيون إلى أهمية المسجد الأقصى المبارك في أرض فلسطين الشامية، بدليل ربطه بالمسجد الحرام في مكة المكرمة بهذه الوشائج والصلات تاريخياً وتعبدياً وأحداث عظيمة، مما يعني تبكيت الغافلين عنه، المتجاهلين لهمومه، المتقاعسين عن تلبية ندائه واستغاثة المرابطين في رحابه.
فهذه وقفات تذكيرية عاجلة، تساق لقارئيها بمناسبة حلول ذكرى حادثة الإسراء والمعراج، جديرة بالتدبر والقراءة المتأنية، على أمل أن تنفع الذكرى، فتجذب عيون الذين يؤمنون بالإسلام وقلوبهم وعقولهم وأبدانهم لمسرى نبيهم محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
10 شعبان 1441هـ

تاريخ النشر 2020-04-03
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس