.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يربط الحج بالعقيدة والسلوك - الحلقة الثالثة والأخيرة

==========================================================

عن أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الحج المبرور)
وقفت الحلقة السابقة عند أمور دالة على ربط الحج بالعقيدة، ومن ذلك توحيد الله، ونفي الشرك في التلبية، التي تعبر عن معان إيمانية راسخة، تتمثل في الاستجابة لأمر الله بالحج، والإقرار بالحمد والنعمة والملك لله، ونفي الشريك عنه سبحانه، ومعنى (لبيْك اللَّهُمَّ) أي: يَا الله أجبناك فِيمَا دَعوتنَا، وَقيل: إِنَّهَا إِجَابَة للخليل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
ومن الأمور الدالة على ربط الحج بالعقيدة، ذكر الله بعد تأدية المناسك، فأمر الله بذكره سبحانه وتقواه في أيام الحج، ويعني {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} (البقرة: 203)، هنا التكبير في الصلوات، وعند الجمرات، يكبّر مع كلّ حصاة، وغيرها من الأوقات، وذلك يعبر عن الصلة الوثيقة بين الحج والعقيدة.
والأَيَّام المَعْدُودات التي طلب ذكر الله فيها هي أيام التشريق وأيام منى ورمي الجمار، والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجّة، وأمر الله سبحانه بعد أداء مناسك الحج بتمييز ذكره عن ذكر سواه، ليكون الحاج أشد ذكراً لله من ذكرهم، وَالْمُرَادُ تَشْبِيهُ ذِكْرِ اللَّهِ بِذِكْرِ آبَائِهِمْ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّكْرِيرِ، وَتَعْمِيرِ أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُؤْذِنُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الْآبَاءِ.
وفي سورة الحج دلائل على ربط الحج بالعقيدة الإسلامية، حسب المبين في الآيات 25-37 من هذه السورة الكريمة، ومن بين ما تضمنته هذه الآيات حديث عن الطواف في البيت العتيق، وتعظيم حرمات الله، واجتناب الرجس من الأوثان، والتزام الحنفية، ونبذ الشرك، وتم التأكيد على تعظيم شعائر الله، وأنها من تقوى القلوب، ومحلها إلى البيت العتيق، والثناء على ذاكري الله، والحث عليه، في أربع آيات متتالية وهي: 34و35و36و37.

مَنْ حَجَّ لِلَّهِ
حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، يشرع الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيه باشتراط أمر عقائدي لمثوبة مترتبة على أمر سلوكي تعبدي، فالذي يثاب على حجه النقي من الرفث والفسوق، يكافأ بمحو ذنوبه، وفي هذا ربط واضح للحج بالعقيدة من ناحية، وربط له بالسلوك من ناحية ثانية، فمعنى (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ) أن يكون المقصد من الحج الاستجابة لأمر الله، وأن يتم وفق منهج الله، والفرق العقائدي يبرز بوضوح بين تحقق هذين الشرطين في الحج لله، وبين أن يكون الحج لغير الله، كأن يكون رياء، وهو الشرك الخفي، أو أن يكون لتحقيق غايات ومقاصد مختلفة، ومعلوم من الدين بالضرورة أن قبول العبادات والأعمال الصالحة والمثوبة عليها يشترط له إخلاص النية لله، وهذا مؤكد في كثير من النصوص الشرعية، فالله تعالى يشترط أن يدعى في المساجد له وحده سبحانه، فيقول عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18) ومعنى {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} أي أفردوا له التوحيد، وأخلصوا له العبادة. (تفسير الثعلبي،الكشف والبيان عن تفسير القرآن، 10/55)، وقد أَضَافَ سبحانه المَسَاجِدَ إِلَى ذَاتِهِ بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِقَوْلِهِ:{فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}. (تفسير الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبر، 4/13) ويبين ابن عاشور أن معنى قوله تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} أي وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ، فَلَا تَدْعُوَا مَعَ الله أحداً. (التحرير والتنوير، 8 /171)
والرسول، صلى الله عليه وسلم، أرسى قاعدة بينة راسخة بهذا الشأن بقوله: (الْعَملُ بِالنيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله ما نوى)
وكذلك الفرق واضح بين تقيد مناسك الحج وشعائره بما أمر به الله وشرعه، وبين أن يتم بصور مبتدعة، أو متفلتة من الوصف الشرعي، كما كان الجاهليون مثلاً يطوفون عند البيت عراة، أو وهم يصلون عند البيت على الحال الذي ذمه الله بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (الأنفال: 35) يعني: لم تكن صلاتهم حول البيت إِلَّا مُكاءً؛ يعني: إلا الصفير، وَتَصْدِيَةً؛ يعني: التصفيق باليدين. (تفسير السمرقندي، بحر العلوم، 2 /20)
ربط الحج بالسلوك السوي
بعد الانتهاء من الوقوف عند ما تيسر من الجوانب الدالة على ربط الحج بالعقيدة، يتم الانتقال للجانب الآخر المتضمن في العنوان أعلاه، والمتعلق بربط عبادة الحج بسلوك الحاج، والذي يدل عليه بوضوح الحديث المثبت نصه أعلاه، والذي يبين بأن جائزة الحج الكبرى، والمتمثلة في رجوع الحاج من حجه كيوم ولدته أمه، يتوقف على نقاء سلوكه من الرفث والفسوق، جاء في عمدة القاري أن الرَّفَث: الجِمَاع، وَقد رفث إِلَيْهَا ورفث فِي كَلَامه يرْفث رفثاً وأرفث: أفحش، والرفث: التَّعْرِيض بِالنِّكَاحِ، وَفِي (الْجَامِع) : الرَّفَث اسْم جَامع لكل شَيْء مِمَّا يُرِيد الرجل من الْمَرْأَة، والفسق العِصْيَان، وَالتّرْك لأمر الله تَعَالَى، وَالْخُرُوج عَن طَرِيق الْحق. وَقيل: الفسق الخُرُوج عَن الدّين، وقَوْله: (رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدتهُ أُمّه) أَي: رَجَعَ مشابهاً لنَفسِهِ فِي البَراء من الذُّنُوب فِي يَوْم وَلدته أمه، وَرجع بِمَعْنى: صَار، جَوَاب الشَّرْط. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 9 /135-136)
ومن أوجه ربط الحج بالسلوك، منع السلوك ما كان يجري من قبل أهل الجاهلية بالطواف في البيت عراة، فجاء النهي عن ذلك كما في الحديث الصحيح: (لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) (صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب ما يستر العورة)
يقول القسطلاني: وفيه إبطال ما كانت عليه الجاهلية من الطواف عُراة. (شرح القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 1/395)
ويروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ نَزَلَ رَدًّا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ مَعَ الْعُرْيِ، يَعْنِي زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبُوا فِيهَا، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى كَمَالِ التَّجْرِيدِ عَنِ الذُّنُوبِ، أَوْ تَفَاؤُلًا بِالتَّعَرِّي مِنَ العُيُوبِ. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 5 /1788)
وفي موضع قرآني آخر إشارة بينة لربط الحج بالسلوك، حيث بين سبحانه أن الهدي الذي يتقرب به الحاج لله تعالى لن يناله سبحانه لحومها ولا دماؤها، ولكنه يناله أمر تعبدي آخر، وهو تقوى العابدين، فقال عز وجل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} (الحج:37)، يبين السمرقندي أن أهل الجاهلية، كانوا إذا نحروا البدن عند زمزم، أخذوا دماءها، ولطخوا بها حول الكعبة، وعلقوا لحومها بالبيت، وقالوا: اللهم تقبل منا، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزل: {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها} يعني: لن يصل إلى الله عز وجل لحومها ولا دماؤها. {وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ}؛ أي يصل إليه التقوى من أعمالكم الزاكية، والنية الخالصة. (تفسير السمرقندي، بحر العلوم، 2 /461)
جاء في تفسير القشيري أن لا عبرة بأعيان الأفعال، سواء أكانت بدنية محضة، أم مالية صرفة، أو بما له تعلّق بالوجهين، ولكن العبرة باقترانها بالإخلاص، فإذا انضاف إلى إكساب الجوارح إخلاص القصود، وتجرّدت عن ملاحظة أصحابها للأغيار صلحت للقبول. (لطائف الإشارات، تفسير القشيري، 2 /546)
خاتمة
يظهر بعد هذا العرض المجمل لما تيسر من أوجه دلالات ربط الحج بالعقيدة والسلوك، أن هذه العبادة الجليلة بشعائرها ونسكها وأعمالها وأذكارها تخدم جانب الإيمان، وتعزيزه في قلوب الذين يؤدونها، وعلى رأس قضايا هذا الجانب توحيد الله، والتحلل من أنواع الشرك جميعها، وتقود للعمل بما يرضي الله، ولا يتم هذا إلا بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، في العبادات والمعاملات والقيم والأخلاق، وفي الأحوال جميعها، سلمها وحربها، عسرها ويسرها، فطاعة الله واجبة دائماً، ولا ينحصر وجوبها بمواسم؛ كالحج ورمضان، ولا بأماكن؛ كالمساجد، ومواطن الطواف، والسعي للحج ومنى وعرفات، وإنما تجب في المشعر الحرام، والبيت الحرام، وفي بيوت الله، والأسواق والمساكن والسفريات، وفي الجد واللهو، وحتى يثمر الحج فوائد وخيرات ينبغي أن ينطلق من عقيدة سوية، وأن يترك بصمات خيرة على سلوكات الحجاج، خلال تأدية المناسك وبعدها، فالرابط بين الحج والعقيدة والسلوك وثيق ومتين، حري بالمسلمين أن لا يغفلوا عنه، حتى لا يكون حجهم مجرد رحلة إلى بلاد الحرمين وعودة منها بلا طهارة من براثن الذنوب والخطايا، سائلين الله العلي القدير أن يوفق من يحج بيت الله الحرام، للحج المبرور والسعي المشكور، لينال جائزة الذنب المغفور حسب ما وعد رسولنا محمد الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
8 ذو الحجة 1445هـ

تاريخ النشر 2024-06-14
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس