.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يربط الحج بالعقيدة والسلوك - الحلقة الثانية

==========================================================

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ)(صحيح البخاري، كتاب الحج، باب التلبية،)
وقفت الحلقة السابقة عند البعد العقائدي لمنع المشركين من الحج بعد سيطرة المسلمين، بقيادة الرسول، صلى الله عليه وسلم، على زمام الأمور في مكة المكرمة، على إثر فتحها في السنة الثامنة للهجرة، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مبعوث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ)(صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب ما ستر من العورة) وأَمر بالنداء بذلك حِين نزلت: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا} (التَّوْبَة: 28) ومنع المشركين من قرب المسجد الحرام أمر تشريعي ذو صلة بالعقيدة، فالمسجد الحرام قبلة المسلمين، وفيه تؤدى كثير من مناسك الحج، وعلى رأسها الطواف والسعي، وفرض الله تعالى الحج على المسلمين سنة ست من الهجرة، وكانت أول حجة حجها المسلمون سنة تسع بإمرة أبي بكر، رضي الله عنه، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا: ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ثم حج النّبي، صلّى الله عليه وسلّم، سنة عشر، وقابل أهل الباطل التشريع الخاص بتخصيص البيت الحرام لأهل الإيمان، دون سواهم من أهل الشرك، بابتزاز أهل الحق بأساليب ووسائل شتى ليضعف قوتهم وشوكتهم، فمارسوا عليهم ضغطاً اقتصادياً تمثل بمقاطعة التعامل معهم، فلا يشترون منهم ولا يبيعونهم، وهنا طمأن الله أهل الحق لوقوفه سبحانه معهم، فالله هو الغني الحميد، وهو القاهر فوق عباده، وقال سبحانه: {...وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(التوبة:28)
ولما أمر الله بالحج طلب التوجه به لذاته سبحانه، وأمر بإتمام الحج والعمرة وهو غرض واضح، لكنه جل في علاه أضاف إلى طلب إتمامهما بأن يكون ذلك لله، فقال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ...}(البقرة:196) ومن دلالات ربط الحج بالعقيدة، الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام ـ المزدلفة- وذلك بعد الإفاضة من عرفات، وهو الركن الأكبر للحج.
توحيد الله ونفي الشرك في التلبية
يبين الإمام العيني أن قَوْله: (لبيْك اللَّهُمَّ) في الحديث أعلاه يَعْنِي: يَا الله أجبناك فِيمَا دَعوتنَا. وَقيل: إِنَّهَا إِجَابَة للخليل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ومن الْحِكْمَة فِي مَشْرُوعِيَّة التَّلْبِيَة التَّنْبِيه على إكرام الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ، بِأَن وفودهم على بَيته إِنَّمَا كَانَ باستدعاء مِنْهُ، عز وَجل، وقرن الْحَمد بِالنعْمَةِ وأفرد الْملك؛ لِأَن الْحَمد مُتَعَلق بِالنعْمَةِ، وَلِهَذَا يُقَال: الْحَمد لله على نعمه، فَجمع بَينهمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا حمد إلاَّ لَك، لِأَنَّهُ لَا نعْمَة إلاَّ لَك، وَأما الْملك، فَهُوَ معنى مُسْتَقل بِنَفسِهِ، ذكر لتحقيق: أَن النِّعْمَة كلهَا لله لِأَنَّهُ صَاحب الْملك.(عمدة القاري، 9172-173)
والتلبية تعبر عن معان إيمانية راسخة، تتمثل في الاستجابة لأمر الله بالحج، والإقرار بالحمد والنعمة والملك لله، ونفي الشريك عنه سبحانه.
ذكر الله بعد تأدية المناسك وتمييزه عن ذكر غيره
يحث القرآن الكريم على ذكر الله وتقواه في أيام الحج، فيقول تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة:203)، وهذا الحث يعبر عن الصلة الوثيقة بين الحج والعقيدة، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} يعني التكبير في الصلوات، وعند الجمرات يكبّر مع كلّ حصاة وغيرها من الأوقات.
والأَيَّامٍ المَّعْدُودَاتٍ هنا هي أيام التشريق وأيام منى ورمي الجمار، والأيام المعلومات عشر ذي الحجّة. (تفسير الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، 2/113)
وأمر الله سبحانه بعد أداء مناسك الحج بتمييز ذكر الله عن ذكر سواه، ليكون الحاج أشد ذكراً لله من ذكرهم، فقال جل شأنه: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}(البقرة:200)
وَقَوْلُهُ: {كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ} بَيَانٌ لِصِفَةِ الذِّكْرِ، وَالْمُرَادُ تَشْبِيهُ ذِكْرِ اللَّهِ بِذِكْرِ آبَائِهِمْ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّكْرِيرِ وَتَعْمِيرِ أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُؤْذِنُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الْآبَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} أي أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا، وَشُبِّهَ أَوَّلًا بِذِكْرِ آبَائِهِمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ يشغلون فِي ذَلِك الْمَنَاسِكِ بِذِكْرٍ لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِهِمْ أَنْ يُعَوِّضُوهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ ذِكْرِ الْآبَاءِ بِالتَّفَاخُرِ.
فَالْمُرَادُ مِنَ التَّشْبِيهِ أَوَّلًا إِظْهَارُ أَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِالذِّكْرِ هُنَالِكَ مِثْلَ آبَائِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ بِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَكُونُ أَشَدَّ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالذِّكْرِ.(التحرير والتنوير، 2/244)
دلائل في سورة الحج لربط الحج بالعقيدة الإسلامية
المتدبر في الآيات 25-37 من سورة الحج يجد دلائل جمة لربط الحج بالعقيدة الإسلامية، حيث تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(الحج: 25)
وفي الإِلحاد بالظلم أربعة تأويلات:
أحدها: أنه الشرك بالله؛ بأن يعبد فيه غير الله، وهذا قول مجاهد وقتادة.
والثاني: أنه استحلال الحرام فيه، وهذا قول ابن مسعود.
والثالث: استحلال الحرام متعمداً، وهذا قول ابن عباس.
والرابع: أنه احتكار الطعام بمكة، وهذا قول حسان بن ثابت.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن عمرته عام الحديبية.(تفسير الماوردي، النكت والعيون، 4 /15-16)
وفي الآية السادسة والعشرين تحذير لسيدنا إبراهيم، عليه السلام، من الشرك، بعد أن بوأه الله مكان البيت، فقال عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(الحج: 26)
وفي الآية السابعة والعشرين والتي تليها، أمر الله إبراهيم، عليه السلام، بأن يؤذن في الناس بالحج، وتحديد هدف تعبدي وعقائدي للحج بأن يذكر الحجاج اسم الله في أيام الحج المعلومات، فيقول عز وجل:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}(الحج: 27-28)
بين ابن عباس أن معنى{بَوَّأْنَا}: جعلنا. وقال مقاتل: دللناه عليه، ومعنى قوله تعالى: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً}: وأوحينا إِليه ذلك، وفي المراد بـ «القائمين» قولان: أحدهما: القائمون في الصلاة، قاله عطاء، والجمهور. والثاني: المقيمون بمكة، حكي عن قتادة.
وفي الآيات الباقية حديث عن الطواف في البيت العتيق، وتعظيم حرمات الله، واجتناب الرجس من الأوثان، والتزام الحنيفية ونبذ الشرك، فيقول تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(الحج: 29)
وعودة لتأكيد تعظيم شعائر الله، وأنها من تقوى القلوب، ومحلها إلى البيت العتيق، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج: 30)
{حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}(الحج: 31)
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ* لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ العَتِيقِ}(الحج: 32-33)
ثم الثناء على ذاكري الله، والحث عليه، في أربع آيات متتالية وهي: (34) و(35) و(36) و(37):
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}(الحج: 34)
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(الحج: 35)
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(الحج: 36)
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج:37)
فهذه متابعة موجزة متدبرة في شواهد أخرى لربط الحج بالعقيدة، شملت وقفة عند التلبية في الحج بما تعنيه من توحيد الله ونفي الشرك، والتي يبدأ بها بعد الشروع بركن الحج الأول، وهو الإحرام، مع التمويه بذكر الله بعد تأدية المناسك وتمييزه عن ذكر غيره، وبخاصة فيما دلت عليه عينة من آيات سورة الحج مما يعزز جانب ربط الحج بالعقيدة الإسلامية، آملين التمكن من الوقوف في الحلقة القادمة عند ربط الحج بالسلوك، حسب ما ظهر في مناسك الحج وأعماله التي أداها نبينا محمد، صلى الله وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
1 ذو الحجة 1445هـ

تاريخ النشر 2024-06-07
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس