نهى الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، عن حزن متعلق بأقوال أعدائه ومواقفهم، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا...} (المائدة:41)
تم التذكير في الحلقة السابقة بجانب من هجرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، في ذكرى الهجرة النبوية وحلول العام الهجري الجديد 1447 بمناسبة قوله، صلى الله عليه وسلم، لصاحبه وهما في الغار: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) وفي سياق الحديث عن الاستعاذة من الهم والحزن، المتضمن رداً مفعماً بالإيمان واليقين، والاطمئنان إلى جنب الله، على الرغم من صعوبة الموقف وشدته، ومعنى (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) أي: يحفظنا ويكلؤنا. وقد لوحظت ثمار هذه المقولة بما جرى بعد ملاحقة سراقة وما جرى لفرسه وقتئذ، حتى إنه أدرك أن لا قبل له بهما، فطلب النجدة مقابل خدمة يقدمها لهما بأن يوري عنهما، ومن الدروس والعبر والعظات المستنبطة من هذه الحادثة بيان أن الله ينصر عباده كما نصر رسولهم، صلى الله عليه وسلم، حين كان ثاني اثنين لا جيش معه، فالذي نصره في هذا الحال قدير على نصره وهو في جيش عظيم، فتبين أن تقدير قعودهم عن النفير لا يضر الله شيئاً، ما يعزز اليقين بالله الذي ينبغي أن لا يتزعزع مهما بلغ ظلام الليل، ففرج الله قريب، ونصره كذلك.
نهي عن حزن متعلق بمواقف أعداء وأقوالهم
الرسول، صلى الله عليه وسلم، المستعيذ من الهم والحزن، نبهه الله إلى تجنب مسببات الحزن المتعلقة بمواقف بعض أعدائه وأقوالهم، كالمنافقين والذين هادوا، حسب ما جاء في صدر الآية 41 من سورة المائدة، وقد بين عبد الكريم الخطيب أن هذا عزاء وتسرية للرّسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، عن هذا الحزن الذي كان يقع في نفسه من أولئك الذين يتخذون دين اللّه لعباً ولهواً، يلبسه أحدهم كما يلبس الثوب، يستر به جسده من لفح الزمهرير، أو وهج الحرور، فإذا أمن الحرّ أو البرد، طرحه، وبدا للناس عارياً.
إن هؤلاء المتلاعبين بالدين لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولم يعتقدوه عقيدة، تستولي على قلوبهم، وتختلط بمشاعرهم.. ومن هنا كان استخفافهم به، وتحولهم عنه، إذا أوذوا في أموالهم أو في أنفسهم، أو إذا لاح لهم في أفق آخر لمعة سراب لعرض زائل من عروض الدنيا.
ومثل هذا الإيمان لا وزن له، والذين يكونون على هذه الشاكلة ضررهم أكثر من نفعهم، وخروجهم من الإيمان خير من دخولهم فيه..
وإضافة إلى هذه التسرية عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بهذا الخطاب، فإن فيه تهويناً لشأن هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام بكلمة ألقوها على أفواههم، ثم خرجوا منه بكلمة، قذفوا بها من أفواههم.. فخسارة الإسلام فيهم ـ إن بدت في ظاهر الأمر خسارة ـ ليست في حقيقتها إلا كسباً للإسلام وللمسلمين، إذ قطعت هذه الأعضاء الفاسدة من جسد المجتمع الإسلامي، وعزلت عنه هذا الداء الخبيث الذي يندسّ في كيانه، ويعمل على إضعافه وإفساده.
وفي قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا} هو عطف على قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}. (التفسير القرآني للقرآن، 3 /89-90)
لن يضروا الله شيئاً
في الآية 176 من سورة آل عمران يقول تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:176)
يفسر الرازي النهي عن الحزن هنا بأنه نهي عن الإسراف فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر:8)، أو أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك، ألا ترى إلى قوله: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـئاً} يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة. (تفسير الرازي، 1 /1313)
ويبين الطاهر بن عاشور أن هذا نهي للرسول، صلى الله عليه وسلم، عن أن يحزن من فعل قوم يحرصون على الكفر، ومعنى {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} يتوغلون فيه، ويعجلون إلى إظهاره وتأييده، والعمل به عند سنوح الفرص، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس، فعبر عن هذا المعنى بقوله: {يُسَارِعُونَ} وعند ابن عاشور أن هذا استعارة تمثيلية: شبه حال حرصهم وجدهم في تكفير الناس وإدخال الشك على المؤمنين وتربصهم الدوائر وانتهازهم الفرص بحال الطالب المسارع إلى تحصيل شيء يخشى أن يفوته، وهو متوغل فيه متلبس به، فلذلك عدي بفي الدالة على سرعتهم سرعة طالب التمكين، لا طالب الحصول، إذ هو حاصل عندهم، ولو عدي بإلى لفهم منه أنهم لو يكفروا عند المسارعة. قيل: هؤلاء هم المنافقون، وقيل: قوم أسلموا ثم خافوا من المشركين فارتدوا.
وجملة {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} تعليل للنهي عن أن يحزنه تسارعهم إلى الكفر بعلة يوقن بها الرسول، عليه الصلاة والسلام. وموقع إن في مثل هذا المقام إفادة التعليل، وإن تغني غناء فاء التسبب.
ونفي {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} مراد به نفي أن يعطلوا ما أراده، إذ قد كان الله وعد الرسول، صلى الله عليه وسلم، إظهار دينه على الدين كله، وكان سعي المنافقين في تعطيل ذلك، نهى الله رسوله أن يحزن لما يبدو له من اشتداد المنافقين في معاكسة الدعوة، وبين له أنهم لن يستطيعوا إبطال مراد الله، تذكيراً له بوعده بأنه متم نوره.
ووجه الحاجة إلى النهي: هو أن نفس الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإن بلغت مرتقى الكمال، لا تعدوا، تعتريها في بعض أوقات الشدة أحوال النفوس البشرية: من تأثير مظاهر الأسباب، وتوقع حصول المسببات العادية عندها، كما وقع للرسول، صلى الله عليه وسلم، يوم بدر. وهو في العريش، وإذا انتفى إضرارهم الله انتفى إضرارهم المؤمنين فيما وعدهم الله. (التحرير والتنوير، 3 /288-289)
ويبين الزحيلي أن دلالة هذه الآية تشبه آية: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 55-56)، وآية: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (القلم: 44)، وآية: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} (التوبة:85) .
ثم بيّن تعالى استدراج الكافرين وإمهالهم لوقت معين، فقال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178)، فأخبر أنه لا يحسبن هؤلاء الكفار أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم؛ لأنهم لا يستغلون العمر في عمل الخير، وإنما يستغلونه في الشر، فتكون عاقبتهم ازدياد الإثم على الإثم، والمبالغة في الباطل والبهتان، ولهم عذاب مهين: ذو إهانة وإذلال لهم، أي إنما هو معدّ لهم.
ولا يظنن الكفار أن إمهالنا يقصد به ازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما الإمهال لهم هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان، لا لزيادة الإثم وللتعذيب، فيكون الإملاء خيراً لهم، ولكن علم اللّه سابقا أن بعضهم لن يعود إلى دائرة الحق والخير والرشاد، فهؤلاء لهم عذاب مهين. (التفسير المنير، 4 /177-178)
العزة لله جميعاً
في إطار نهي الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، عن الحزن، وبيان مبررات هذا النهي، يؤكد سبحانه أن العزة لله جميعاً، فيقول تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يونس:65)
فالله يسري عن نبيه، صلى الله عليه وسلم، بنهيه عن الحزن لما يقوله أعداؤه وخصومه في شأنه من التخويف والتهديد، ولا يسؤه تكذيبهم وتعزيزهم بكثرة الأموال والأولاد، فقال تعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} فالغلبة والقهر على الأعداء بالقدرة من خصائص اللّه تعالى، لا يملكها أحد غيره، فهو الذي يعز من يشاء وحده لا شريك له، ولو لم يكن لديه قوة ومنعة، ويذل من يشاء، ولو كان ذا قوة ومنعة، وأنت ممن شاء عزّك في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة:21)
وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51)
وقال تعالى: {...وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...} (المنافقون:8)
وقال تعالى: {وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)
وقال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات:173)
ولهذا؛ فإنه تعالى قادر على سلبهم ما يتعززون به عليك بإهلاك أموالهم وأولادهم وذويهم، وإذلالهم وإهانتهم وإظهار عزك عليهم بالنصر، و{هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم ودعائك {الْعَلِيمُ} بنواياهم وأحوال نبيه، صلى الله عليه وسلم. (بيان المعاني، 3 /56-57)
فهذه وقفة أخرى عند النهي عن الحزن، الصادر عن رب البرية لرسوله، صلى الله عليه وسلم، مع التنبيه لبعض مبررات هذا النهي التي ترقى لتكون عقائدية قبل أن تكون عملية لازمة التطبيق.
آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بمضمون حديث أَنَس بْن مَالِكٍ، حول الاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، كما رويت عن الرسول الأسوة محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
9 محرم 1447هـ