يقول الله عز وجل في محكم التنزيل:{إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}(التحريم: 4)
الوعيد في هذه الآية الكريمة موجه إلى امرأتين من أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، لكن معلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله وجبريل وصالح المؤمنين ينتصرون للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، ممن يسيئون إليه أو يؤذونه، حيث وجدوا، في كل زمان وحين، والملائكة بعد ذلك ظهير.
الانتصار للنبي، صلى الله عليه وسلم، في الظروف كلها
جرائم الاستهزاء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، تستثير غضب المؤمنين برسالته ومحبيه في أنحاء المعمورة، وما ذاك منهم إلا تحقيقاً لوعيده عز وجل في الآية القرآنية الكريمة أعلاه من سورة التحريم، جاء في التسهيل لعلوم التنزيل، أن قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا...} خطاب لعائشة وحفصة، رضي الله عنهما، وتوبتهما مما جرى منهما في قصة تحريم الجارية، أو العسل، ومعنى صغت أي مالت عن الصواب، وقرأ ابن مسعود: زاغت، والمعنى إن تتوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة، {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} المعنى إن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم، بما يسوؤه، من إفراط الغيرة، وإفشاء سره، ونحو ذلك، فإن له من ينصره، ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم، فيوقف على مولاه، ويكون جبريل مبتدأ، وظهير خبره، وخبر ما عطف عليه، ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر، فيكون جبريل معطوفاً، فيوصل مع ما قبله، ويوقف على صالح المؤمنين، ويكون الملائكة مبتدأ، أو ظهير خبره، وهذا أظهر وأرجح لوجهين، أحدهما أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع، فإن ذلك كرامة للنبي، صلى الله عليه وسلم، وتشريف له، وأما إذا كان بمعنى السيد، فذلك يشترك فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، مع غيره؛ لأن الله تعالى مولى جميع خلقه بهذا المعنى، فليس في ذلك إظهار مزية له، والوجه الثاني أنه ورد في الحديث الصحيح، أنه لما وقع ذلك جاء عمر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رَسُولَ اللَّهِ، ما يَشُقُّ عَلَيْكَ من شَأْنِ النِّسَاءِ، فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ، فإن اللَّهَ مَعَكَ، وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وأنا وأبو بَكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ...)(صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء)
واختلف في صالح هل هو مفرد، أو جمع محذوف النون للإضافة، فعلى القول بأنه مفرد هو أبو بكر، وقيل: علي بن أبي طالب، وعلى القول بأنه جمع فهو على العموم في كل صالح.(التسهيل لعلوم التنزيل، 4/131-132 بتصرف)
وينسب أبو السعود في تفسيره إلى ابن عباس، رضي تعالى عنهما، أن المراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، وبه قال عكرمة ومقاتل، ويقول: هو اللائق بتوسطه بين جبريل والملائكة، عليهم السلام، فإنه جمع بين الظهير المعنوي، والظهير الصوري، كيف لا، وإن جبريل ظهير له، عليهما السلام، يؤيده بالتأييدات الإلهية، وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة، وتمشية أحكامها الظاهرة، ولأن بيان مظاهرتهما له عليه الصلاة والسلام، أشد تأثيراً في قلوب بنتيهما-عائشة وحفصة- وتوهينا لأمرهما، فكان حقيقاً بالتقديم، بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين، كما هو المشهور.(تفسير أبي السعود، 8/267)
فنصرة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، من الله وجبريل وصالح المؤمنين، هي وعد إلهي أزلي وباق إلى يوم الدين، لا مندوحة عن ذلك، وهو القائل سبحانه: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(الروم:6)
والملائكة بعد ذلك ظهير
الوعد الإلهي بنصرة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، لم يقتصر على موالاته، صلى الله عليه وسلم، من الله، والملك جبريل عليه السلام، وصالح المؤمنين، حسب ما ذكر في صدر الآية الكريمة، بدليل قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} قال مقاتل: بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين الملائكة ظهير، أي أعوان للنبي، صلى الله عليه وسلم، وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع، كقوله تعالى: {...وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً}(النساء:69)، (تفسير البغوي، 4/366)
يقول الطبري: والملائكة مع جبريل وصالح المؤمنين لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعوان على من آذاه، وأراد مساءته. والظهير في هذا الموضع بلفظ واحد في معنى جمع، ولو أخرج بلفظ الجميع لقيل والملائكة بعد ذلك ظهراء.(تفسير الطبري 28/163)
فالآية الكريمة أعلاه طمأنت المؤمنين في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا تزال تطمئن المسلمين حتى تقوم الساعة، بما أعد الله من نصرة لنبيهم، صلى الله عليه وسلم، وتخيب المستهزئين والمسيئين ومتربصي الدوائر بالإسلام والمسلمين، فهم وكيدهم إلى بوار، فالله وجبريل وصالح المؤمنين أعوان للرسول، صلى الله عليه وسلم، ومظاهرون له، ومن كان هؤلاء أنصاره فهو المنصور، وغيره إن يناوئه فهو مخذول، كيف لا؟! وقد جعل الله نفسه الكريمة وخواص خلقه أعواناً لهذا الرسول، صلى الله عليه وسلم. (تفسير السعدي/1/873بتصرف)
مما يعني التحذير الشديد لمن يحاولون الإساءة للنبي، صلى الله عليه وسلم، مهما بلغت بهم الوقاحة والصلافة وقبح التصرف، وإن غداً لناظره قريب {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}(هود: 122)
أعاننا الله والمسلمين كافة على نيل شرف ومثوبة القيام بواجب نصرة نبينا، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه ووالاه بإحسان إلى يوم الدين.
20 ربيع أول 1442هـ