عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قال:(أُصِيبَ رَجُلٌ في عَهْدِ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فقال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا عليه، فَتَصَدَّقَ الناس عليه، فلم يَبْلُغْ ذلك وَفَاءَ دَيْنِهِ، فقال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا ما وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلا ذلك)(صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب استحباب وضع الدين)
يعاني كثير من الناس في هذه الأيام وما شابهها من ضيق ذات اليد، والتعثر في الوفاء بالالتزامات المالية، ومن أبرزها قضاء الديون، والرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي سعيد الخدري أعلاه يحث على مراعاة ظروف المدينين، مبيناً أن ليس للدائنين على المدينين سوى ما يجدون لديهم من مال يستردون منه حقوقهم، فإذا فاقت مبالغ الديون على ما لدى المدينين، ففي هذه الحالة يُكتفى باسترداد المتوافر، ليس إلا، جاء في مرقاة المفاتيح: أن المعنى ليس لكم إلا أخذ ما وجدتم، والإمهال بمطالبة الباقي إلى الميسرة، وقال المظهر: أي ليس لكم زجره وحبسه؛ لأنه ظهر إفلاسه، وإذا ثبت إفلاس الرجل لا يجوز حبسه بالدين، بل يخلى، ويمهل إلى أن يحصل له مال، فيأخذه الغرماء، وليس معناه أنه ليس لكم إلا ما وجدتم، وبطل ما بقي من ديونكم.(مرقاة المفاتيح:6/103)
ويذكر ابن حجر: أن الجمهور ذهبوا إلى أن من ظهر فلسه فعلى الحاكم الحجر عليه في ماله، حتى يبيعه عليه، ويقسمه بين غرمائه على نسبة ديونهم.(فتح الباري:5/66)
جزاء إمهال المعسر والعفو عنه
الحديث أعلاه يتوافق مع الحث القرآني على إمهال المعسرين، حيث يقول عز وجل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة:280)
فعند تعسر أحوال المدينين يُنظَرون، وقد تضافرت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة في بيان فضل إمهال المعسر، والتجاوز عنه، فعن أَبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم،
قال:(كان تَاجِرٌ يُدَايِنُ الناس، فإذا رَأَى مُعْسِرًا، قال لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عنه، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ الله عنه)(صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب من أنظر معسراً)
وفي رواية عن حُذَيْفَة قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (تَلَقَّت الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كان قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ من الْخَيْرِ شيئاً؟ قال: لَا، قالوا: تَذَكَّرْ، قال: كنت أُدَايِنُ الناس، فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عن الْمُوسِرِ، قال: قال الله عز وجل: تَجَوَّزُوا عنه)(صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب فضل إنظار المعسر)
جاء في شرح النووي على صحيح مسلم، أن قوله: (فتياني) معناه غلماني، كما صرح به في الرواية الأخرى، والتجاوز والتجوز معناهما المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير، وفي هذه الأحاديث فضل إنظار المعسر، والوضع عنه، إما كل الدين، وإما بعضه، من كثير أو قليل، وفضل المسامحة في الاقتضاء، وفي الاستيفاء، سواء استوفى من موسر أو معسر، وفضل الوضع من الدين، وأنه لا يحتقر شيء من أفعال الخير، فلعله سبب السعادة والرحمة.( صحيح مسلم بشرح النووي:10/224)
مطل الغني ظلم
تمتاز الأحكام الشرعية بمراعاة التوازن بين الحاجات والضوابط، فتقر بالدوافع الفطرية والحقوق الفردية والعامة، لكنها تضع من الضوابط التي تراعى بها الظروف والأحوال، وفي مسألة الديون توازن الأحكام الشرعية بين حق الدائن باسترداد ماله، وبين قدرة المدين على الوفاء بالتزاماته تجاه الدائن، ففي مقابل حث الدائن على إمهال المدين، والعفو عنه، حين يكون معسراً، فإن المدين ملزم ببذل الجهد لسداد الديون المستحقة عليه، ورد الحقوق لأصحابها دون مماطلة ولا تسويف، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فإذا أُتْبِعَ أحدكم على مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ)(صحيح البخاري، كتاب الحوالات، باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة؟)
جاء في عمدة القاري أن المطل في الأصل من قولهم مطلت الحديدة أمطلها، إذا مددتها لتطول، وقال القرطبي: المطل عدم قضاء ما استحق أداؤه، مع التمكن منه، أي أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه، بخلاف العاجز، ويجب وفاء الدين، ولو كان مستحقه غنياً، ولا يكون غناه سبباً في تأخيره حقه عنه.(عمدة القاري:12/110، بتصرف)
لصاحب الحق مقال
إلى جانب بيان إثم المماطل الذي يملك مالاً يقضي به ديونه، ويتخلف عن ذلك دون مبرر مشروع، فإن الإسلام أعذر الدائن في مطالبته بدينه، فذلك حق له، فعن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال: (أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، رَجُلٌ يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ له، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فقال: دَعُوهُ؛ فإن لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا)(صحيح البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب لصاحب الحق مقال)
يعني لصاحب الحق صولة الطلب، وقوة الحجة، على من يمطل أو يسيء المعاملة، وأما من أنصف من نفسه، فبذل ما عنده، واعتذر عما ليس عنده، فلا تجوز الاستطالة عليه بحال.(عمدة القاري:12/136)
فالمطالبة بالديون المستحقة حق مشروع للدائنين، لكن ينبغي أن تكون تحت مظلة الإمهال والإنظار للمعسرين، والرفق بهم، والرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى)(صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف)
وبهذا يظهر بوضوح التوازن بين الحث على العفو عن المعسرين، أو إمهالهم إلى حين ميسرة، وبين ضمان حق الدائنين في استرداد أموالهم من المدينين الميسورين، وذلك كما تظهر أحاديث الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه ووالاه بإحسان إلى يوم الدين.
19 ربيع الثاني 1442هـ