عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ فَارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ مَا صَلَّيْتَ).(صحيح البخاري، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر)
بدأت الحلقة السابقة بانتقاد الذين يحصرون قيامهم الليل بفترات زمانية محدودة من العام، مفرطين بذلك بالثواب العظيم المترتب على المحافظة على قيام الليل والاستزادة منه، وقد ورد الحث على قيام الليل بأساليب وسياقات كثيرة، كما في صدر سورة المزمل، وإشادة الرسول، صلى الله عليه وسلم، به وحثه عليه دون إيجاب، تدلان على منزلته وأهميته. وفي سورة الإنسان أمر الله بالسجود له من الليل، وتسبيحه طويلاً، وفي هذا إشارة إلى التطوع من الليل، والنبي، صلى الله عليه وسلم، كان يحرص على قيام الليل، تعبداً لِلَّهِ وشكراً له سبحانه، وَبَقِيَ سُنَّةً لِغَيْرِهِ بِقَدْرِ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ، وشجع عليه الصلاة والسلام، أزواجه وأهل بيته وأحبابه على قيام الليل، ونفر من تركه بعد التعبد إلى الله به، وأثنى الله على المتقين لصفات يتميزون بها، منها أنهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقاويل، أحدها قيام الليل، وأثنى الله على المتقين لصفات يتحلون بها، منها أنهم قليلاً من الليل ما يهجعون.
صورة مثلى لكيفية قيام الليل
يظهر من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، المثبت نصه أعلاه، أن صلاة الليل تكون مثنى مثنى، وتختم بالوتر، وتعددت الروايات الصحيحة بالخصوص، فعن أَنَس بن سِيرِينَ قَالَ: (قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، أُطِيلُ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ، فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَكَأَنَّ الْأَذَانَ بِأُذُنَيْهِ) قَالَ حَمَّادٌ: أَيْ سُرْعَةً.(صحيح البخاري، كتاب الوتر، باب ساعات الوتر)
يبين العيني أن سؤال أنس بن سيرين لعبد الله بن عمر: (أَرَأَيْتَ) بهمزة الاستفهام، معناه أخبرني، وقوله: (بِأُذُنَيْهِ) بضم الهمزة، وسكون الذال، وضمها، تثنية أذن، وقوله: (وَكَأَنَّ الْأَذَانَ بِأُذُنَيْهِ) عبارة عن سرعته بركعتي الفجر، والمراد من الأذان الإقامة، والحاصل أنه كان يخفف القراءة في ركعتي الفجر، مثل من كان يسمع إقامة الصلاة ويسرع؛ خشية فوات الوقت عنه.
ويستفاد من هذا الحديث الشريف، أن صلاة الليل مثنى مثنى. واستدل به الشافعي على أن الوتر ركعة واحدة. وفيه الصلاة بركعتين قبل صلاة الصبح. وتخفيف القراءة فيهما.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:10/364)
وعَنْ ابْن عَبَّاسٍ (أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، وَهْيَ خَالَتُهُ، فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ وِسَادَةٍ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، فَاسْتَيْقَظَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي يَفْتِلُهَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ). (صحيح البخاري، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر)
وظاهر هذا أنه فصل بين كل ركعتين، ووقع التصريح بذلك في روايات عديدة، حيث قال فيها يسلم بين كل ركعتين، وقد ورد عن ابن عباس في هذا الباب أحاديث كثيرة بروايات مختلفة، وكذلك عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، وقوله: (ثمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) قال القاضي: فيه أن الاضطجاع كان قبل ركعتي الفجر، وفيه رد على الشافعي في قوله إنه كان بعد ركعتي الفجر، وقوله: (ثُمَّ خَرَجَ) أي إلى المسجد، فصلى الصبح بالجماعة. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري:10/358)
موضع صلاة الوتر ووقتها من الليل وقيامه
يذكر ابن بطال عن المهلب، قوله: ليس للوتر وقت مؤقت لا يجوز غيره؛ لأنه عليه الصلاة والسلام، قد أوتر كُلَّ الليل، كما قالت عائشة، وقد اختلف السلف في ذلك.
وتساءل الطبري إن كان جمهور العلماء على هذا، فما وجه أمره، عليه الصلاة والسلام، لأبي هريرة بالوتر قبل النوم، وأمره واجب؟ وقول عائشة: (كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ) (صحيح البخاري) وأجيب عن هذا التساؤل أن كلا الخبرين صحيح، ووصى صلى الله عليه وسلم، أبا هريرة، رضي الله عنه، بالنوم على وتر، فعَنه، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ)(صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب صلاة الضحى في الحضر)، وهو اختيار من الرسول، عليه الصلاة والسلام، له، حين خشي أن يستولي عليه النوم، فيقع وتره في غير الليل، فأمره بالأخذ بالثقة، وأن يوتر قبل نومه. (شرح صحيح البخاري لابن بطال: 2/578-579)
ومن الروايات الصحيحة المؤكدة لصحة هذا المنحى التوفيقي بين الروايات، وأن المسألة فيها سعة لاختلاف المواقف تجاهها، ما روي عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: مَنْ خَافَ أَنْ لا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ صَلاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ)(صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: (سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ وِتْرًا، فَإِنَّ النَّبِيّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ بِهِ) (صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد)
أي فيصلي المصلي كذلك إلا أن يخشى الصبح، فإذا خشيه صلى واحدة، أو لا حاجة إلى التقدير؛ لأن قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) لبيان كيفية صلاة الليل، والمقصود به العمل بها. (حاشية السندي على صحيح البخاري:1/161)
قيام الليل سنة مندوبة
صلاة قيام الليل من النوافل التي كلما استزاد العابد منها، نال من الله مزيداً من الفضل والمثوبة، حتى يفوز بمحبة الله له، مصداقاً للحديث القدسي الذي فيه: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...)(صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاس، فَقَالَ: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ) (صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة)
يبين العيني أن قوله (فِي حُجْرَتِهِ) أي في حجرة بيته، يدل عليه ذكر جدار الحجرة، وهي الموضع المنفرد من الدار، وقوله: (شَخْصَ النَّبِيِّ) الشخص سواد الإنسان، وغيره يراه من بعيد، وإنما قال بلفظ الشخص لأنه كان ذلك بالليل، ولم يكونوا يبصرون منه إلا سواده.
وقوله: (بِصَلَاتِهِ) أي متلبسين بصلاته، أو مقتدين بها، قوله (فَأَصْبَحُوا) أي دخلوا في الصباح، وهي تامة، قوله: (فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ) هكذا رواية الأكثرين، ووجهها أن فيه حذفاً تقديره ليلة الغداة الثانية، وقال الكرماني: الليلة مضافة إلى الثانية من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أي الاقتداء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وقوله: (إِذَا كَانَ) أي الوقت والزمان. وقوله: (فَلَمْ يَخْرُجْ) أي إلى الموضع المعهود الذي كان صلى فيه تلك الليالي، فلم يروا شخصه، قوله: (فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاس)، أي للنبي، صلى الله عليه وسلم، وقوله: (أَنْ تُكْتَبَ) أي تفرض.
وقال الخطابي قد يقال: كيف يجوز أن تكتب علينا صلاة، وقد أكمل الله الفرائض، ورد عدد الخمسين منها إلى الخمس؟ فقيل: إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه إذا رأوه يواظب على فعل يقتدون به، ويرونه واجباً، فترك النبي، صلى الله عليه وسلم، الخروج في الليلة الرابعة، وترك الصلاة فيها؛ لئلا يدخل ذلك الفعل في الواجبات، فقطع العمل به تخفيفاً عن أمته. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري: 8/476)
والحادثة المخبر عنها في هذا الحديث الشريف، وقعت في قيام رمضان، حيث صُرحَ في رواية صحيحة أخرى عن ذلك، فعَنْها، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (... وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ). (صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان)
فدلت هذه الروايات على أن عدم خروجه إليهم كان للخشية من فرضية هذه الصلاة، لا لعلة أخرى. وقول: (وذلك في رمضان) كلام عائشة، رضي الله تعالى عنها، ذكرته إدراجاً لتبين أن هذه القضية كانت في شهر رمضان. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري:11/269)
فالحمد لله أن يسر في هذه الحلقة إجمال صورة مثلى لكيفية قيام الليل، وبيان موضع صلاة الوتر ووقتها من الليل وقيامه، والتوضيح أن قيام الليل سنة مندوبة، آملين التمكن من متابعة الوقوف عند موضوعات وقضايا أخرى ذات صلة بصلاة قيام الليل، حسب ما جاء بالخصوص في القرآن الكريم، وفي سنة نبينا خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
20 شوال 1446هـ