الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، ووفقنا لأداء فريضة الصيام، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان فضلاً منه ورحمة ، إنه هو الحليم المنان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعطى أمتنا في رمضان من خصال الخير واختصها من الفضل ما لم يؤت غيرها من الأمم فقد ورد عن رسول الله r :" أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله عز وجل كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك ويصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم في آخر ليلة قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر قال لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله " ( أخرجه أحمد برواية أبي هريرة).
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمداً عبد الله ورسوله بشر الصائمين بدخول الجنة من باب الريان فقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم :" إن في الجنة بابا يقال له الريان ، يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال أين الصائمون ، فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق ، فلن يدخل منه أحد " ( أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد) .
فصلاة الله وسلامه على خير الأنام وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام الذين اهتدوا بهديه وساروا على نهجه، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، ورضي الله عمن تبعهم واقتفى أثرهم واستن سنتهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى :{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } (فصلت:46).
أيها الصائمون؛ أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس:
يا أحباب رسول الله r، يا من شددتم رحالكم منذ بواكير هذا اليوم ميممين شطر المسجد الأقصى المبارك لاعماره بأداء صلاة الجمعة الثانية من هذا الشهر الفضيل.
وقد حزتم الفضل من جميع أطرافه ففزتم بفضيلة الزمان والمكان والإنسان، فإن لله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
فيومكم هذا هو يوم الجمعة وهو سيد الأيام فيه تؤدون صلاة الجمعة وهو المؤتمر الأسبوعي للمسلمين فيه ساعة ما وافقها عبد مؤمن يدعو الله تعالى إلا استجاب له، اللهم نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعائنا واحفظنا بحفظك الذي لا يضام.
وشهر رمضان أيها الأحباب هو سيد الشهور، شرفه الله بنزول القرآن فيه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}( البقرة:185).
وهو شهر الصيام وشهر البر والخير والإحسان، شهر التراويح والتسابيح وتلاوة القرآن والذكر والأذكار، شهر يزاد فيه ثواب العاملين ويكافئ الله فيه الصائمين، ويفيض عليهم من بركاته ورحماته وغفرانه ما لا يحصره حد أو يحيط به أحد ، إنه الفضل الإلهي {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ }( النور:21)
أيها المسلمون؛ أيها الصائمون :
أما فضيلة المكان التي أحرزتموها فأنتم في رحاب المسد الأقصى الذي بارك الله فيه وبارك حوله وجعله أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث مسجد تشد إليه الرحال مع المسجد النبوي الشريف والمسجد الحرام.
ويضاعف الله فيه ثواب الأعمال، فالصلاة فيه بخمسمائة صلاة كما ورد عن حبيبنا ورسولنا المصطفى العدنان.
وأما فضيلة الإنسان فحسبكم شرفاً وفضلاً أنكم المرابطون في هذه الديار، تحرسون مقدساتها وتحافظون على وجهها العربي وهويتها الإسلامية بشركم بهذا رسولنا الأكرم r بقوله :"يا معاذ إن الله U سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة" (رواه عبد الرزاق في مجمع الزوائد)
أيها المسلمون أيها الصائمون يا أبناء أرض الإسراء والمعراج:
إن زحفكم الميمون إلى المسجد الأقصى في هذا اليوم العظيم وحشدكم الكريم ليؤكد حقيقة ناصعة جوهرها إيمانكم الذي لا يتزعزع بأن الله ناصر عباده الصادقين مهما اشتدت الخطوب وتوالت الكروب وتكالبت علينا الأمم.
كما يبرهن احتشادكم في هذه الرحاب الطاهرة أن الحواجز والعوائق التي يقيمها الاحتلال لن تحول بينكم وبين المسجد الأقصى المبارك رغم أنها تعيق مئات الآلاف من أبناء شعبنا من الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة والعبادة في هذه الأيام الفضيلة من شهر الصيام، وصدق الله العظيم :{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }( البقرة:114)، كما يؤكد جمعكم هذا للقاصي والداني وللعدو والصديق أن ذرية المسلمين لن تبرح تغدو وتروح إلى القدس ومسجدها الأقصى الذي يشكل جزءاً من عقيدة المسلمين، ويجسد القرار الرباني بإسلاميتها مهما حاولت معاول الاحتلال طمس حضارتها وسلخها عن محيطها الفلسطيني والعربي والإسلامي، فهذا المسجد وهذا الجمع وهذا الشعب المرابط ومن ورائهم أبناء الأمة الإسلامية لن يرضوا عن القدس بديلاً ولن يقبلوا هيكلاً مزعوماً في مسجدهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
{ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }( يوسف:21)
والرسول r يقول :" تركت فيكم أمرين ، لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة رسوله " (أخرجه مالك في الموطأ)
أو كما قال
فيا فوج المستغفرين استغفروا الله
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية :
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، كان جواداً وأجود ما يكون في رمضان فإذا لقيه جبريل u كان أجود بالخير من الريح المرسلة والمزن المثقلة ينفق ولا يخشى من ذي العرش إقلالاً.
صلى عليه إلهُ العرش ما هطلت سحب وغرد قمريُ على الشجر
ورضي الله عن آل بيته الطاهرين وعن أصحابه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد أيها المسلمون أيها الصائمون:
نحن في الثلث الثاني من شهر رمضان المبارك، ثلث المغفرة كما ورد عن النبي r في وصفه لأيام هذا الشهر الفضيل بقوله:" وهو شهر أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار " ( أخرجه الألباني في مشكاة المصابيح).
نسأل الله تعالى أن يرحمنا ويغفر لنا ذنوبنا ويعتق رقابنا ورقاب والدينا ورقاب المسلمين من النار.
فأقبلوا يا عباد الله على موسم الخير هذا، على مائدة الصيام مائدة الرحمن والقرآن، هذا الكتاب الذي اشتملت آياته أحكام الحياة والأحياء والسعادة والشقاء، وقص علينا أخبار الأمم السابقة والممالك الغابرة عبرة لمن يعتبر وزاجراً لمن عن الشر ينزجر وهدى وبصيرة لمن يعتبر{ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }(الحشر :2).
واجعلوا من شهركم هذا شهراً لتلاوة القرآن وتدبر أحكامه والوقوف على مقاصده وأسراره ليكون دستور حياتنا وشاهداً على أفعالنا وأقوالنا، لأنه حبل الله المتين وعروته الوثقى التي لا انفصام لها، من أخذ به فاز وغنم ، ومن أعرض عنه خاب وخسر، أشغلوا أيام رمضان ولياليه بأعمال الخير من الصدقات والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والدعاء والأذكار.
وجنبوا صيامكم آفات اليد واللسان حتى يكون صيامكم خالصاً لله إيماناً واحتساباً يقودكم إلى ثواب الله الجزيل وعطائه الكريم يوم يشفع الصيام والقرآن لصاحبهما في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها المسلمون؛ أيها الصائمون:
تذكروا في هذا الشهر زكاة صيامكم وهي صدقة الفطر التي شرعت تطهيراً لنفس الصائم وطعمة للمساكين، فقد روى ابن عباس – رضي الله عنهما – قال:" فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات "( أخرجه أبو داود). ويجوز إخراجها في أيام رمضان ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد صلاة عيد الفطر.
وتجب على المسلم المكلف عن نفسه وعياله وهي صاع من غالب قوت البلد وزنته ألفان ومائة وستة وسبعون غراماً.ويجوز إخراجها بالقيمة المالية وقد قدرها مجلس الإفتاء الأعلى لهذا العام بمبلغ ثمانية شواقل أو ما يعادلها بالعملات الأخرى.
كما أن نصاب زكاة المال ألف وخمسمائة دينار أردني لهذا العام.
فبادروا أيها المسلمون إلى أعمال الخير بإخراج زكاة أموالكم وصدقات فطركم { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا }( المزمل:20)
فهنيئاً لمن صام رمضان إيمانياً واحتساباً وأشغل لياليه بالصلاة والقيام وأقبل على القرآن تدبراً وفهما وجاد في رمضان تأسياً بأجود الناس وخير الناس رحمتهم في الدنيا وشفيعهم في الآخرة.