الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي تفرد بأسمائه وتنزهت عن الشبيه صفاته وأفعاله، وحيرت ذوي العقول لطائف أقداره، وشملت خصائص نعمه سيد رسله وأحبابه، فكان الإسراء بالمصطفى r من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى المبارك، ثم العروج به إلى السموات العلى، فسبحان من قال بحق ذاته جل وعلا{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (الإسراء:1).
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة، وهو العزيز الحكيم ، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله،أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وتركنا على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلاة الله وسلامه على النبي المجتبى والرسول المصطفى
يامن سرى وعلى ظهر البراق عــــــلا وأمَّ بالمسجد الأملاك والرسلا
يا أكمل الخلق يا خير الورى عملاً صـــلى وسلم مولانا عليك بلا
نهاية ما أتى صبح وزال دجى
والصلاة والسلام على آله الطاهرين المستكملين الشرفا، وعلى أصحابه مصابيح الدجى وأقمار الهدى، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم واستن سنتهم إلى يوم الدين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } (فصلت:46).
أيها المسلمون؛ أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس:
بعد أيام قلائل تمر على المسلمين ذكرى أليمة إنها ذكرى حرق المسجد الأقصى المبارك.
ففي الحادي والعشرين من شهر آب من عام ألف وتسعماية وتسعة وستين، اقترفت تلك الجريمة النكراء التي دبر لها بليل ونسجت خيوطها بدقة وخبث، ليحترق المسجد الأقصى لأول مرة في تاريخه.
لقد أفاق المقدسيون،بل أهل فلسطين كلها على استغاثات تنطلق من رحاب المسجد الأقصى المبارك، ومن على مآذنه أن هلموا إلى مسجدكم فإنه يحترق بنار الغدر ونار الحقد ونيران الاحتلال، أنقذوا المسجد الذي يجسد عقيدتكم وقبلتكم الأولى ومسرى نبيكم u ومعراجه إلى السماوات العلى.
انقذوا أمانة الفاروق عمر وحضارة عبد الملك والوليد، لا بل حضارة المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي في هذه الأرض الطاهرة.
أيها المسلمون؛ يا أبناء ديار الإسراء والمعراج:
لقد استهدف الحريق الذي ما زال مشتعلاً بشكل أو بآخر إزالة رموز الحضارة الإسلامية بكل ما تمثله هذه الحضارة من ارتباط عقدي وإسلامي بهذه الديار التي يروي كل شبر من أرضها معركة بطولة أو ملحمة فداء، كما تشهد رموز التوحيد فيها على سماحة الإسلام والمسلمين مع سكان هذه الديار.
أيها المسلمون؛ يا إخوة الإيمان في كل مكان :
لم يكن الحريق المشؤوم هو العدوان الوحيد على المسجد الأقصى في ظل الاحتلال الإسرائيلي بل تعددت أشكال العدوان على المسجد من خلال الاقتحامات المتكررة لبواباته من قبل المستوطنين والموتورين من الجماعات اليهودية التي تحلم بإقامة الهيكل المزعوم في أرض المسجد الأقصى.
وأن الأنفاق والحفريات التي تجري على قدم وساق في محيط المسجد الأقصى المبارك وأسفل جدرانه لتشكل حريقاً لا يقل خطره عن الحريق المشؤوم عام تسعة وستين وتسعماية وألف، وأن هدم طريق المغاربة والعبث بآثارها الإسلامية، واستبدالها بجسر حديدي لينذر بأخطار حقيقية تحدق بالمسجد الأقصى وتفسح المجال لتدخلات سلطات الاحتلال في شؤونه.
هذه الشؤون التي تخص المسلمين وحدهم، لأن المسجد مسجد إسلامي بقرار رباني،ومن أظلم ممن يغير أو يعتدي على أمر الله وحكمه!!؟
أيها المسلمون؛ يا إخوة الإيمان في كل مكان :
إن المتابع للاعتداءات التي تمت وتتم على المسجد الأقصى المبارك ليدرك بما لا يدع مجالاً للشك بأن المسجد مستهدف وأن محاولات المس به لم تتوقف.
يظهر ذلك من خلال التسلل إلى أسفل ساحاته من نفق البراق إلى بئر قايتباي، وغيره من الأنفاق التي وصلت إلى جداره الغربي، وجداره الجنوبي، وأن العدوان المسلح الذي وقع في قبة الصخرة المشرفة وراح ضحيته الشهداء وأصيب العشرات من المواطنين بجراح ليس منفصلاً عن تلك المجزرة الرهيبة التي اقترفت بحق المصلين الآمنين في المسجد الأقصى المبارك عام ألف وتسعماية وتسعين، يوم حاول أعداء المسجد الأقصى وضع حجر الأساس لهيكلهم في رحاب المسجد الأقصى.
وكان دم الشهداء والجرحى من أبناء فلسطين حاجزاً منيعاً دون تحقيق أهداف الطامعين والحاقدين على القدس ومقدساتها.فلن ترضى النفوس الأبية أن ترى مسجدها المبارك مسرحاً لشذاذ الأفاق أو مكاناً لهيكل مزعوم.
وكما أفشل المسلمون المرابطون كل محاولة للمساس بهذا المسجد المبارك، فسيفشلون بعون الله كل محاولة للاعتداء عليه أو المساس به، مهما كانت التضحيات ولسان حالهم يعبر عن عزيمتهم:
ونحن في القدس في الأقصى نمد له أرواحنا حوله أسوار معتزم
لن يستباح وفي الأجساد نابضها لن يستباح وفينا خفقة النسم
فاعتصموا بالله أيها المرابطون واعلموا أ النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب.
فالله يقول:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}(غافر:51) ويقول تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}( الروم:47).
والرسول r يقول:"لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا يا رسول الله وأين هم قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس"(مسند أحمد،باقي مسند الأنصار،حديث أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان بن عمرو ).
أو كما قال
فيا فوج المستغفرين استغفروا الله
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية :
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحابته الغر الميامين ومن سار على هداهم إلى يوم الدين:
وبعد أيها المسلمون:
إن ذكرى الحريق المشوؤم واستمرار هذا الحريق بأشكال مختلفة تستهدف المسجد الأقصى ليدعو المسلمين جميعاً دولاً وحكومات وشعوباً ومنظمات اقليمية ودولية أن يجعلوا المسجد الأقصى في صميم اهتماماتهم وأول واجباتهم، فهم يرون بأم أعينهم سياسة فرض لأمر الواقع والتهويد الزاحف والهجمة الشرسة على المدينة المقدسة؛ مما ينذر بخطر عظيم وشر مستطير يهدد هذه المدينة ومقدساتها، ويستهدف الوجود العربي والإسلامي فيها، بعد أن طوقها الاحتلال بجدار الفصل العنصري وأحزمة المستوطنات من جميع جهاتها، للتضييق على أهلها ودفعهم للهجرة منها.
أيها المسلمون؛ أيها المرابطون في ديار الإسراء والمعراج:
إن المحافظة على أرضنا المباركة ومدينتنا المقدسة ومسجدنا الأقصى يتطلب منا التمسك بأرضنا وعقاراتنا وإشغال الخالية منها بسكان يحافظون عليها ويرابطون فيها حول المسجد الأقصى المبارك، معقل المسلمين في هذه الديار وقلعة عقيدتهم وعباداتهم.
وقد حث رسولنا الأكرم r على زيارة المسجد وشد الرحال إليه ، فقال عليه الصلاة والسلام :" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" (سنن أبي داود،المناسك،في إتيان المدينة).
وعن ميمونة مولاة النبي r قالت :" يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس فقال أرض المنشر والمحشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه قالت أرأيت من لم يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه قال فليهد إليه زيتا يسرج فيه فإن من أهدى له كان كمن صلى فيه "(مسند أحمد،من مسند القبائل،حديث ميمونة بنت سعد رضي الله عنها)
فهنيئاً لكم أهل هذه الديار برباطكم وصلاتكم في مسجدكم الأقصى الذي شرفكم الله بحراسته وسدانته.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج.. يا سدنة المسجد الأقصى المبارك
بوحدة صفكم وجمع كلمتكم ونبذ الفرقة والفتنة من بينكم، تكونون الجديرين بالمحافظة على هذه الأرض ومقدساتها وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك.
فاعملوا على ما فيه خيركم وخير أمتكم ووطنكم، فالله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ أم ضيع!!
جعلنا الله وإياكم من سدنة الأقصى الأوفياء وحراسه الأمناء، وكف عنا وعنه شر الأعداء وغوائل الأشقياء بحوله وطوله، إنه نعم المولى ونعم النصير.